بحث في هذه المدونة

السبت، 8 ديسمبر 2012

الجسد والانطولوجيا – مفهوم وتساؤلات


الانطولوجيا (ontology):"العلم الذي يكون موضوعه الوجود المحض، أو الموجود المشخص وماهيته، أو الموجود من حيث هو موجود، أو الموجود في ذاته مستقلا عن أحواله وظواهره"[1]، وهنا أجد من الصّعوبة بمكان تقبل مثل هذه الرّباعية في تفسير الانطولوجيا، لاسيما ونحن ندرك أن التّفكير الانطولوجي يعد واحدا من أقدم أنواع التّفكير الإنساني، بل أستطيع القول بأنه القاعدة الأساسية التي قام عليها الفكر المثالي بالكامل كمؤسسة فكرية وفلسفية، نمت بشكل كوني واتسعت بشكل تعجز عنه الطّوبوغرافيا (topography) الواصفة بوصفها علماً[2]، حتى بات موضوع هذه (الواحدية)[3] الانطولوجية في مسيرة الفكر الفلسفي يشكل محط أنظار الفلاسفة والمتفلسفين على حد سواء، وكثيرا ما تقابل هذا الموضوع مع الأفكار (الاثنينية) أو (الثّنائية: الثّنوية)[4]، التي سرعان ما استبعدت نظرا لشيوع وقدم مهمة التّفكير الانطولوجي – الميتافيزيقي، خاصة إذا ما أدركنا أن الميتافيزيقيا تشكل"دراسة اعم واشمل عمقا من أي علم خاص؛ لأنها تهدف إلى توضيح البنية الجوهرية العامة لكل تفكيرنا"[5]، فلم نشاهد التّاريخ[6] إلا وهو يتأثر بالمظاهر العقلانية التي تميزه من جهة تكون وجهه الانطولوجي، وسمته التي ارتكزت على ذاته في وجودها المحض؛"لان معرفة السّبب الحقيقي في وجود ظاهرة ما معناه الوصول إلى تفسيرها على أكمل وجه يقبله العقل"[7].

غير أن الاعتراض هنا مرتبط بتشبيه محاور البحث التي تمد فيها الانطولوجيا أصابعها، وكأنها تقلب الوجود بيد واحده، تماما كما لو انه مكعب الشّكل، أو لنقل إن الانطولوجيا سجين قاعة لها أربعة جدران وأرضية وسقف؛ وذلك لان الفكر المثالي ذاته يخبرنا وفي أكثر من موضع، بأن الانطولوجيا مفتاح لإدراك هذا الوجود بكل ما فيه، وما تم عرضه في بداية الحوار مكعب أهمل فيه ضلعان هما: (واجب الوجود) الذي شكل ومنذ الأساس في تاريخانية الفكر محورا ابتدائيا لانطلاقة التّفكير، و(الوجود الاعتباري) الذي به امتلأت المعرفة مفاهيم وتصورات منها ذاتية وأخرى موضوعية، فالأول لا يقسم ولا يحد ولا يتعدد وليس كمثله شيء تبارك وتعالى، والثّاني قد أتضح في العبارة ولا يحتاج إلى بيان.

هناك دور محدد سلفا يعطي للانطولوجيا امتدادا تاريخيا يشكل فيه الإنسان بوصفه (جسداً) ضرورته الجدلية تلك التي احتيج فيها إلى البحث عن جوهر انطولوجيته حتى شكلت في تبادل الأمكنة والأزمنة نقطة ارتكاز تجري وتتناقل من جيل إلى جيل، عبر تدفق سيال، فلم يكن المكان ازاءها سوى امتدادا عرضانياً ولم يستطع الزّمان إلا أن يكون طولانياً وباستقبال مستمر، حتى أصبحت تراتبية الامتداد التّاريخي لانطولوجيا الوجود من جهة والجسد من جهة أخرى تمر عبر صيغة من التّوالي تختزل الزّمكان إلى لحظات متكررة لا يكون فيها (الماقبل) و(المابعد) سوى اصطلاحات مفاهيمية[8]. ويمكن أن نستشهد بالآية القرآنية المباركة: (وتلك الأيام نداولها بين النّاس)[9]، (وكفى). وكأن عملية إعادة الإنتاج الانطولوجي هي التي تعطي ذلك الامتداد التّاريخ لبحث (الإنسان: الجسد) عن علته وماهية وجوده، فليس من حد فاصل بين (الماقبل: المابعد) مادامت الزّمكانية متصلة بأنطولوجيتها التي ذاب فيها توصيف المقولات (العشرة الارسطية)، باستثناء مقولة الجوهر[10]. على الرّغم من كونها قاعدة تلك المقولات إلا أنها منفلتة عنها بل وخارجة منها، لتشكل مقولة الجوهر (النّامي الحساس المتحرك بالإرادة) مفهوما في المعاصرة التي تبدو أنها غير منفكة عن"الجدة"بأي حال من الأحوال، حتى يبدو كل زمكان في كوزمولوجيا الوجود الجسدي الخارجي انه يمثل (الآن).

إذاً فـ(دراسة المبادئ الأولى للأشياء) كما عبر عن ذلك ارسطو أو"علم (الوجود) من حيث هو كذلك"[11] تستوجب النّظر من ستة وجوه وهي: الذي لا مثيل له، والوجود المحض، والمشخص، والمفرد، والذّاتي، والاعتباري، فالوجود الأول هو الذي ينظر فيه إلى علة كل الموجودات ومنشأها، والثّاني هو الوجود المصدري أو الاصطلاحي، والثّالث هو الوجود الذي ينظر إلى الأشياء بما هي أشياء (كالجسد)، والرّابع هو الذي ينظر إلى ظواهر تلك الأشياء بما رحبت من تغير وتبدل، أما الخامس فينظر إلى الماهية التي تشكل الذّات، والسّادس ينظر إلى المفاهيم الذّهنية كاشفا وجودها ومحل شأنيتها[12]، وبذلك أستطيع النّظر إلى الانطولوجيا متكاملة الأطراف من دون عوق يعوق أنظمتها في تفسير أو محاولة وضع البراهين على وجود علبتها ذات السّطوح السّتة، فتلك الرّؤية التّقليدية تبدو وكأنها عاجزة عن تحقيق المشروع الشّمولي لمفهوم الوجود ولو على النّحو الميتافيزيقي، مادام الأخير غير منفك بأي حال من الأحوال عن تحقيق ذات الرّؤية الشّمولية. ومهما كان تأكد الانفكاك فثمة ارتباط يرتد إلى المركز بصفة يتضح فيها الانتماء حيال ذلك (الجوهر)، الذي أكد عامة المثاليين وجوده منذ البداية"وانه سابق على سائر الاشياء الأخرى لا من حيث الوجود فحسب، بل من حيث التّفسير والمعرفة كذلك؛ أي إن تفسير أي شيء آخر يتطلب فكرة الجوهر، ومعرفة أي شيء آخر تقتضي معرفة الجوهر، وان وجود أي شيء آخر يتوقف على وجود الجوهر"[13]، فما بالك وهو كركن أساسي غير موجود في الرّباعية السّابقة، فضلا عن ان المثالية بمدركاتها العقلية ومنظومتها في تقرير الابستومولوجيا قد أكدت على (الادراك) "والواقع فأن إلغاء الادراك يعني قطع علاقة الذّات بالعالم، تغدو الذّات بذلك برجا أصم الجدران لا نوافذ له"[14]. من هنا ندرك أهمية الإدراك وتأصيل تركيبة المفهوم المجتر من الواقع الخارجي ذاته.

الجسد وإشارته إلى ضرورة وجود العلة:

إن الانطولوجيا سرعان ما تكشف لنا بعد أن تكشفت بمحاورها السّتة السّابقة، أن الجسد معلول، فقير محتاج إلى علة، وهذا الأمر سيؤدي به إلى البحث عن ضرورة اللّجوء إلى مصدر كماله الذي يكون قادرا على اجابته في اشد الحالات تأزما، وتلبيته لنداء الخلود الذي يرتجى أمام زواله كقوام (جسدي)، الأمر الذي يفسر الكثير من الحضور والتّشبث في (الآن) خوفا على (الانا) وبشكلها الجمعي (النّحن) من الاندثار أو الانزواء في أقبية الزّمكان ما بين (الماقبل والمابعد)، ليس وفقا لمقولة (كانط) في سياقها المجرد، وإنما على وفق تنميطها المتحيز (الصّوري) كما عند هوسرل أو هيدجر أو باشلار (السّير الحتمي نحو العدم)[15]. وعليه قد أوجد الجسد بوصفه موجودا انطولوجيا ينظر إليه من كل الجهات (من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحتهم)[16]، جسدا آخر غير جسده المتحيز الزّمكاني، جسدا لا يعرف الحدود في البقاء ورافضا لحتمية الواقعي مستبشرا إزاء ذلك المجرد. الخارج عن الرّؤية التّقليدية. تماما كالرّياضيات التي جعلت كل الحدود المتناهية قابلة للانفتاح على اللّانهاية، وبالرّغم من إمكانية الامتداد (تراجعا: الماقبل) و(تقدما: المابعد) إلى ما لانهاية، يبقى الجسد البديل (المزعوم) ذا طبيعة حدية ومتناهية بالضّرورة المشروطة بالمشيئة والإرادة الإلهية.

وهنا يكمن الإشكال عن الذي تمثله أنظمة (الجسدانية) في بنية من القيود والتّشيؤ. مقابل ترفع الذّات الإلهية عنا، إشكالاً يضع معارف كثيرة كالعقائد والإلهيات والفلسفة والطّبيعيات والفن وغير ذلك[17]، الإشكال يفتح شهية الجسد في مداولة ذاته بذاته، انه يضع نفسه على طاولة الحوار، ويخاطب كل منهما جدليته في المحدودية (الفناء) وفي عدمها (البقاء). الجسدانية بمفهومها الانطولوجي أشارت إلى الجسد لان يفكر في عينه، في ذاته، وأي سؤال يطرحه المسؤول وأي جواب يجيبه السّائل، انه بمنزلة العطب الذي يصيب (الرّوبوت - repot)، فيضطرب فيه كل شيء، وعلى فكرة فالرّوبوت جسد، وهو إشكالية قد نوفق للحوار عنها في مقال لاحق إن شاء اللّه تعالى.

في الحال الذي يشير المرء إلى جسده على انه ذاته، أو يمثل ذاته، فانه يبغي تأكيد انطولوجيته، يريد التّثبيت على فعل وجوده، أمام انزياحات الفناء، التي تعددت مظاهرها؛ الأمر الذي دعا لعدم اكتفاء الذّات بالجسدانية ممثلا لها، فقد جعلت لها دوال أخرى تشير إلى مدلولها، وتحقق في الوقت ذاته استمرارية بقائها، كالصّورة في تشبيهها الجسدي بوصفها هوية صورية شكلية، أو كالتّسمية في تجسيدها المتمثل، بوصفها هوية لغوية[18]، وهكذا الكثير من الهويات التي سنعرض لها في هذه الدّراسة، كالهوية الافتراضية والهوية الهولوغرافية وهوية الأجساد الآلية، وغير ذلك. وفي الحقيقة إن مجموع هذه الدّوال هو الذي يشكل حقيقة الذّاتي والجسدي، سواء أكان ذلك بجعلهما حدا واحدا من دون تمييز في ما بين كل منهما أم مع التّمييز. والحالة الأولى تنظر إلى ارتباط الدّوال بالمدلول في أنظمة واقعية مرتبطة بالمحدود والنّسبي، والثّانية تنظر إلى انفصال الدّوال عن المدلول تأكيدا لحتمية الانفصال التي تؤكد بدورها ضرورة اللّجوء إلى (مطلق). والسّؤال الملح هنا: لماذا هذا اللّجوء؟ ألسّنا نرى أن لهذا اللّجوء ثمة متطلبات يكون أهمها إثبات وجود (المطلق) ذاته، وهذا هو مركز النّواة في استقرارها الثّاوي في جوانيات البحث الانطولوجي، بل وهو مبرر وجوده.

الجسد وتشخص السّؤال الانطولوجي.

لقد ذكرت في ما سبق أن (المطلق)، (الواحد)، (واجب الوجود ومصدر باقي الوجودات)، الذي صير نقطة ارتكاز الميتافيزيقي في رحلته الفكرية الطّويلة: انه اخذ يشكل الأنموذج في التّساؤل وفي التّجربة اليومية للإنسان الأعتادي، تلك التي كان أكثر ما يشغلها هو التّأمل في طرفي المعادلة، (الحياة والموت)، (الوجود والعدم)، (البقاء والفناء)، (الإثبات والنّفي)، (أكون أو لا أكون)، وكأن المحفز لهذه القضية الكونية ليس الطّرفين اللّذين ذكرتهما فحسب، وإنما ثمة تساؤل مجاور هو الذي يرسم خطا متوازيا في جسد القضية حتى يسبقها أحيانا ويتعداها أحيانا أخرى، وهو الذي يؤكد ارتباط السّؤال ذاته ببنية الفلسفة، حتى قبل أن تكون هناك فلسفة."لذلك كان من حق كل عاقل ان يشرع في طرح أسئلته التي تقلقه وكأنما لم يجب عليها احد من قبله"[19]، وهي المرتبطة في مركزها الثّابت ذلك (البقاء) السّرمدي الأبدي، أين (أنا - نحن) قبل الجسدانية المتغيرة، وأين (أنا - نحن) بعد الجسدانية المتغيرة. وكأن الانطولوجيا في الوقت ذاته الذي تقرر فيه أن الجسد هو بوابة الدّخول إلى عالم (الفناء)، تقرر كذلك انه بوابة الخروج إلى عالم (البقاء). غير أن الذي يدعو للحيرة أكثر من ذلك بكثير، وهو أن الانطولوجيا كمؤسسة فكرية بالوقت الذي تؤكد فيه على الموجودات بما هي هي، وتغرق النّظر في ذلك كثيرا، تصف وجودها ووجود موجوداتها التي اشارت إليها في تنظيراتها على أنها مسلسل طويل من العدم المتكرر أو حلقات متتالية من الفناء المتصل، وان هذا الوجود في مسير ابدي لمغادرة النّسبي والعود من جديد للجوء إلى (مطلق)، يجمع طرفي المعادلة ذاك بوصف (ماضي تام). مع انفتاح لا حد له لتوصيفات (الماقبل والمابعد) في الوقت ذاته الذي تنتفي فيه كل اشارات الزّمكان والذّوبان في حضور اللّامتناهي بلا جسدانية مقيدة، وناقصة، وحينها فقط تنهار الانطولوجيا، لانهيار الكثرة والتّعدد، ليس لأنهما خواص النّسبي والمصور أو المتشكل وإنما لأنهما خارج بنية (المجرد).

وفي عودة إلى ارتباط التّساؤل بالفلسفة، حتى قبل أن تكون هناك فلسفة سنجد أن القضايا في حقيقة أمرها ترسم في ثلاثة خطوط: يشكل الأول منها طرفي المعادلة في (البقاء/الفناء)، والثّاني منها يتمحور في (الماقبل) و(المابعد)، ما قبل (البقاء) وما بعد (الفناء)، أو لنقل انه خط موازٍ تكون فيه الجسدانية حلا وسطيا، أو هي تحتل مكانا وسطانيا، له بداية وله نهاية، بدايته هي التي تؤكد حضوره في المشخص والمعين، ونهايته هي التي تؤكد انصهاره في ساحة التّجريد الكلي على الرّغم من كونها ساحة تظل فيها الذّات مقولبة في حدود جسدية أرحب من هذه الحدود التي شكلت مبحث الانطولوجيا بمنهجيته المثالية. ولعل الذّات بين الجسدي المقيد، واللّاجسدي: ذلك الجسد الأرحب، هي التي حققت انطولوجيتها بذاتها، لعقدها فسحة من التّفلسف حتى قبل وجود الفلسفة"ذلك انه بالرّغم من شمولية السّؤال الفلسفي فان له قاعدة شخصانية وفردانية. وبالتّالي فان الاجوبة المتوقعة يريد ان يحصلها السّائل كما لو كانت هي أجوبته الذّاتية، اكتشافاته. ثمة معاناة ذاتية وسرية هنا في هذا السّياق. إذ إن السّؤال الفلسفي ليس معرفيا بمعنى الكلمة، ليس طلبا لمعلومة معينة يضيفها المرء إلى ذاكرته من المعلومات والمعارف الأخرى، بل طلبا لتلك الحقيقة التي تخصني انا وحدي،{...} ولو لم يكن هناك ذلك الإلحاح والهم لان يحصل السّائل على تلك الحقيقة التي تخصه أو تهمه وحده، لما أمكن القول إن الحقيقة الفلسفية هي حقيقة وجود، أنها ما يمكن أن تحقق لصاحب السّؤال ما يحس انه يعادل كينونته"[20]، فإذا كان (الجسد) يعني الوقوف على عتبتي مدخلين متناقضين (بقاء- فناء)، فان (العقل) مع اشتغالاته قرر وجود عالم اسبق لهذا (البقاء: الحياة) وعالم لاحق (للفناء: الموت)، وذلك بطرائق استنباطية وان تعددت إلى قياس أو استقراء أو تمثيل، وان الذّات دعت للوقوف على باب الكينونة وذلك لارتباطها بالسّؤال المتفلسف ارتباطا أعمق واشمل وأعظم التّحاما بصميم الذّات، ومن هنا"يكون انزياح السّؤال أو منعه أو استبعاده قد يساوي منع الموجود عن تحقيق وجوده"[21]، أي أن في ارتباط السّؤال بالفلسفة صارت الفلسفة، والفلسفة الانطولوجية على نحو يحقق التّأمل في العلة والمعلول، والمجرد والنّسبي، واللّاجسدي والجسدي، اللّامرئي والمرئي، بواقع يستحيل فيه إنفكاك الكينونة عن الكائن، سواء أكان ذلك تحت أنظمة الدّلائلية أم لا، سواء أكان ذلك تحت سلطة اليقين أم لا[22]؛ بمعنى أن الذّات، أو الانا أو الكينونة، لم تجد لها طريق آخر سوى الفلسفة للإجابة على ما يحقق الوجود وما به يكون، وكأن (ديكارت)، لم يأت بشيء جديد (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، وفي منطق الألفاظ وتبديلها يصح أن نقول (أنا اسأل إذاً أنا موجود)، على القدر الذي ارتبط فيه السّؤال ببنية الفكر، إنها نوعا من الجدل بين كليهما وقد قيل قديما (مفتاح العلم السّؤال).



[1]. ينظر: د. عبد المنعم الحفني، المعجم الشّامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 2000، ص 124. وهو يذكر أن (الانطولوجية): (ontologism) مذهب للفيلسوف الايطالي (جيوبرتي) (1851م)، والانطولوجية الواقعية تعود إلى (نيقولا هارتمان) (1882 – 1950 م)، وهنا يجد الباحث ثمة مفارقة عظيمة سنحاول أن نقف عندها وهي تتعلق بموضوع هذا العلم (الانطولوجيا) أي (الوجود): الذي لا يحتاج إلى تعريف لأنه بديهي التّصور، وما كان كذلك كيف جاز أن يكون موضوعا (انطولوجيا)، ونحن نعلم أن بنية المعرفة أساسا أقيمت على كشف المجاهيل أو غير المعرفات، فما الحاجة في البحث عن ماهية الوجود، وهي لا تحتاج إلى إثبات ؟ وباتفاق عام عند الفلاسفة.

[2]. الطّوبوغرافيا: استعمال مجازي يؤكد شمولية الفكر المثالي الذي لا يمكن تحديده لا مكانيا ولا زمانيا، والطّوبوغرافيا هي العلم الذي تصدى لوصف أو رسم الأماكن وسماتها السّطحية من جهة جغرافية، ينظر: هتشنسون، معجم الأفكار والأعلام، ت: خليل راشد الجيوسي، دار الفارابي، ط1، بيروت-لبنان، 2007، ص 298.

[3]. واحدية: وحدوية: احادية: هي نظرتنا إلى الوجود التي تتصف بتجريدها العقلي، أو التي تصف ما هو مجرد ممكن الانطباق على ما هو مادي، بمعنى ان هذه النّظرة تقول"بوجود جوهر واحد فحسب، أو عالم واحد، أو ان الواقع الخارجي (واحد) بمعنى ما، اي انه لا يتغير ولا ينقسم ولا يتمايز، فمثلا المذهبان المتعارضان القائل احدهما بان كل شيء عقلي والقائل الآخر ان كل شيء مادي، ما هما إلا صورتان فجتان للتعبير عن الواحدية، وكلاهما يعارض الذّوق الفطري في قوله بالثّنائية المؤلفة من العقل والمادة (...) وهما احق بان يطلق عليهما المثالية والمادية على التّوالي"ينظر: فؤاد كامل،و جلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، دار القلم، بيروت - لبنان، د.ت، ص 534.

[4]. الثّنوية: اي مذهب فكري يقسم كل شيء بطريقة أو بأخرى إلى مقولتين أو عنصرين، أو انه قد يستمد جميع الاشياء من مبدأين، أو انه يرفض ان يسلم بما يزيد أو ينقص عن جوهرتين أو نوعين من الجوهر، وعلى الرّغم من ان المذاهب الثّنائية لا بد بطبيعة الحال من ان يثبت أصحابها صحتها بالحجج العقلية، إلا ان ما يؤدي ببعض الفلاسفة الى الثّنائية هو الدّافع الذي يحفزهم الى تنسيق صورتنا عن العالم وتبسيطها، للمزيد يراجع: فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 161.

[5]. فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 471.

[6]. كثيرا ما نحسب أو نعد التّاريخ كواحد من العلوم التي ارتبط وجودها بوجود العقلانية، وكثيرا ما نحسب أن الاخيرة هي المحفز لظهور التّاريخ وغيره من العلوم، غير انها جاءت متأخرة في الظّهور على مسرح الوجود، فقد ارتبطت مع الكتابة، تماما كما ارتبط التّاريخ بذلك، غير انه جل ما يقدمه هو تقصي الحوادث عودا أو رجوعا الى بدايتها التي انطلقت منها، الامر الذي يفسر ارتباطه بالماضي دائما، ليفسر ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وذلك من خلال تعليل تاريخي، أو اساس منطقي يُكشف فيه ما السّبب أو ما علة ظهور الظّاهرة. ينظر: د. جميل موسى النّجار، دراسات في فلسفة التّاريخ النّقدية، دار الشّؤون الثّقافية العامة، ط1، بغداد، 2004، ص 13-23.

[7]. د. محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، دار المعارف، ط5، مصر، 1967، ص 219.

[8]. ان انطولوجيا الجسد أو الوجود بالاساس لم تنظر الى (الماقبل)، و(المابعد) بل نظرت الى (الماهو)، وهي وفقا لهذه النّظرة تؤسس نظاما من الجدل غير متحول ولا متبدل، يستمد رسوخه وثبوته من جهة النّظر الى غاية هذا الوجود الذي تسبب به الواجب له، خارج حدود الزّمكان الذي وضعنا حدوده نحن على وفق معايير نسبية هي في الاساس دليل نسبيتنا نحن، (فما من شيء كان فما قبله، وما من شيء كائن فما بعده).

[9]. قال تعالى في كتابه الكريم: (إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٌ فَقَدۡ مَسَّ الۡقَوۡمَ قَرۡحٌ مِّثۡلُهُ وَتِلۡكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ النّاسِ وَلِيَعۡلَمَ اللّهُ الذينَ آمَنُوا۟ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ)، في سورة آل عمران المشرفة، الآية رقم (140).

[10]. الباحث يود الإشارة هنا إلى نوع من المغالطة في مفهوم المقولات العشرة الارسطية، فبالوقت الذي يفترض ان تكون كلها مقولات للعرضي، نجد أن أولى تلك المقولات هي (الجوهر). والمتطلعون يعرفون أن الجوهر مقولة ذاتية وليست عرضية، فالجوهر هو الموجود في موضوع، والعرض هو الموجود لا في موضوع، والحقيقة هي إن المقولات في معيار تغيرها وتبدلها تسعة، إذ ليس في الذّاتي ثمة تحول أو تبدل؛ لأنه هو هو في كل مكان وزمان، أما الذي يتغير فيه فليس هو بما هو جوهر، وإنما هو بما هو عرض، وعليه فليس من حد فاصل فعلا بين الإنسان ومفاهيم الزّمكان، أي ليس ثمة ما يتصف بأنه (قبل وبعد) نظرا للتحول وللتغير في الإنسان كجوهر عدا عرض الجسد وما يلحق بهذا العرض.

[11]. يراجع: فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 466-472.

[12]. ذكر الباحث أن المفاهيم (شأنية) الحلول، وذلك لأنها اعتبارية، فهي تحل في الذّهن حلولا دون الإقامة، فهي ليست كالمواد الخارجية التي من شأنها الحلول والإقامة كالجسد الخارجي مثلا. ينظر احمد جمعة، الوعي الجمالي - دراسة في التّطبيقات الشّكلية البصرية، دار الأصدقاء، بغداد، 2009. وكذلك: احمد جمعة، المنطق منهجا نقديا - دراسة في قراءة الشّكل الفني، بيت الحكمة، بغداد، 2010.

[13]. الجوهر في الفكر المثالي القديم يعني جنس الأجناس الذي لا جنس فوقه أبدا. القول المقتبس لأرسطو، وهو يربط كل ما يتعلق بالمعرفة والتّفسير والوجود بالجوهر. ينظر: فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 466.

[14]. ينظر: مطاع صفدي، نقد العقل الغربي-الحداثة وما بعد الحداثة، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، 1990، ص 128.

[15]. القبلي والبعدي ذهني عند (كانط) اما عند الظّاهراتيين فهو مرتبط بالأشياء الخارجية وصورها. بمعنى أن فكرة الخلود التي سعى الانسان ومنذ القدم الى تحصيلها إنما هي فكرة تستدعي البحث عن ما قبل هذه النّشأة الجسدية وما بعدها، ولان القبلي والبعدي عند (كانط) لم يكن مرتبطا بالاشياء الخارجية وانما بالمفاهيم الذّهنية (النّومينات والاسكيمات) فاستبعدتها، فضلا عن كونها نمطا من الاستدلال المغلوط، إذ ليس ثمة شيء لم يأت عن طريق الخبرة، أما الحيز المرتبط بالاشياء عند هيدجر أو باشلار، فهو ينظر الى وجود الاشياء عينها لا إلى تصوراتها، أما عن مقولة القبلي للفيلسوف الالماني (كانط) فهي معرفة عنده بـ(المعرفة التي لا تأتي عن طريق الخبرة) وفي تقديري لا توجد معرفة ما إلا وهي مقرونة بالخبرة والغريب في الامر انه يقدم امثلة على استدلاله المغلوط فيقول (الشّمس تشرق من المشرق) وهذه معلومة احتاجت إلى تحصيل، وبالتّالي فهي جاءت عن طريق الخبرة. والمقام لا يسمح الى تفصيل المطلب فلسفيا ومنطقيا، لكنه استوجب الإشارة فأشرت إليها.

[16]. استعارة هذه الالفاظ لا علاقة لها بالتّشابة الشّديد مع الاية القرآنية المباركة، وان كانت الاية كاشفة عن تحقق النّظرة الشّمولية وامكان حصولها. اشارة الى شمولية النّظر الى الاشياء وهو نظر متحقق. بدلالة نص القرآن الكريم، (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَانِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡ وَلاَ تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَاكِرِينَ) الذي اشارت اليه سورة الاعراف المشرفة في الاية (17).

[17]. لان التّفكير في هذا المطلب أحال الموجودات على ثلاثة أنواع، أو لنقل ثلاث أفكار. فكرة (المرئي-المتجسد) في الموجودات الواقعية. و(اللّامرئي- المتجسد) و(اللّامرئي-اللّامتجسد) في الموجودات الماورائية، وواقع الحال يكشف لنا انشغال الإنسان طويلا في تقريرها كأفكار، حتى يمكننا ملاحظة ذلك، فالمعيار في مجمل تقريرات المعرفة كان منصبا حول تصنيف الموجودات بين حضورها الجسدي واللّاجسدي، وفي الغالب تكون هذه الأفكار أساسا لوجود المعارف، أو لنقل إنها كانت بمنزلة البذرة التي نمت فأصبحت بكل هذه التّفرعات المعرفية.

[18]. ارتباط الصّورة بالذّات وبالجسد ارتباط قديم جدا، لأنها تشير دائما إلى صاحب الذّات، حتى بعد أن يقوم فعل الفناء بإزاحته من ساحة الوجود، ولهذا السّبب ولغيره فضلت التّسمية في الكثير من الشّرائع فالاسم الذي يلحق بالأبناء بمثابة الحضور الجنيولوجي فيهم، ما داموا في ساحة الوجود، لان التّسمية ستبقى متداولة بعد رحيل (الذّات).

[19]. مطاع صفدي، نقد العقل الغربي-الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص 20.

[20]. المصدر السّابق والصّفحة ذاتها.

[21]. المصدر السّابق والصّفحة ذاتها.

[22]. بعد ظهور القواعد الدّليلية في مجال المعرفة المتخصصة المسماة وفق الاصطلاح الفلسفي بـ(الانلوطيقيا)، انتقل الإنسان فكريا إلى محطات كبيرة وفاعلة، حتى أن انتقاله هذا يعني انتقال من اللّادليل إلى الدّليل، بمعنى أن حضور البرهان أو التّعليل أو التّبرير، اخذ يشكل الحد الفاصل بين الأيمان بالقضية - أي قضية - أو عدم الأيمان بها، بين التّصديق أو التّكذيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق