بحث في هذه المدونة

الثلاثاء، 26 يونيو 2012

(العِلمُ) ، المفهوم والتفسير.




        ربما يشير العنوان إلى مطلب يتعلق بنظرية العلم  ،  وهي كنظرية تبحث في متعلقات العلم  ،  أو بماذا يهتم العلم  ،  لكني هنا أود أن أبين ما هو العلم أصلا . من خلال أفكار بعض كبار أهل المعرفة  ،  فكثير منا عندما يسأل عن العلم ما هو : يجد السائل فينا حيرة كبيرة  ،  وتخبط في تصوراتنا حول هذا المفهوم الذي يبلغ من البداهة ما يجعله غير قابلا للتعريف أو الحد  ،  ولأجل ذلك أحببت أن أبين وفي سطور مختزلة ما هذا المفهوم وما هو تفسيره  ،  لكن بطريق علمي ومقتضب.

        عند النظر إلى هذا المفهوم وتقصيه في أنظمة المعرفة المثالية  ،  يجد أي متطلع لطروحات المفكرين حيال هذا المفهوم ما يجعل منه محط غموض  ،  دون تفسيره  ،  وواقع الحال أن الحدود تستعمل لبيان ماهية الشيء  ،  دون إبهامها  ،  وبما أن المفكر المثالي يلتزم الحجة المنطقية  ،  لاسيما في شروط الحدود كما هي في كتب أو مؤلفات اغلبهم  ،  وفضلت أن أتماشى مع ما اشترطوه  ،  في مبحث التعريفات  ،  عندهم  ،  وحاولت أن استعرض المفهوم بشكل متسلسل اكرونولوجيا  ،  إلا ما عارض ذلك من تواز أو تداخل بين احدهم والآخر في المكان والزمان .

        يقول أفلاطون إن"العلم إحساسا أو حكما صادقا"أو"ظنا صادقا مصحوبا ببرهان".([i])  وفي هذين التعريفين نجد أن العلم معرفا عند أفلاطون ،  في كونه إحساساً أولاً ويتبعه الحكم ثانياً. وعلى أن يكون الحكم صادقا في المرحلة الثالثة. وهذه التتابعية لا تصلح لان تكون تعريف للعلم ،  هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار(قواعد التعريف)  المنطقية ،  علاوة على كونه(ظنا)  في التعريف الثاني ،  والمعرفة لا تبنى إلا على التصديقات اليقينية عادة. صحيح أن المعرفة الظنية يعتد بها في أكثر المسائل ،  إلا أن النتائج غالبا ما تكون يقينية. وبما أن التعريف في نظر الباحث يعد نتيجة ،  لذا يجب أن يكون يقينيا ،  لان  "الغرض من الحدود والرسوم التصديق" ([ii].

        قد يرى البعض أن مثل هكذا نقد أو مناقشة لا تصلح مع أفلاطون ،  الذي يعد من المؤسسين لعلم المنطق ،  إلا انه لا إشكال في مناقشة الآراء والأحكام معرفيا ،  كما انه لا عيب في أن لا يتوصل الإنسان إلى حد من الحدود ،  فهذا العالم الغزالي يقول عن العلم في كتابه المستصفي ، "يَعِسُ تحديده على الوجه الحقيقي لعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي ،  فإننا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه و إذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن حد الإدراكات اعجز لكننا نقدر على شرح العلم بتقييم ومثال" ([iii].

        والمهم في تعريف أفلاطون السابق هو عدم الشمولية ،  وأحد شروط التعريف أن يكون شاملا لما هو معرف ،  وعدم الشمولية تكمن في كون التعريف غير جامع للمدركات العقلية ،  التي غالبا ما يتوصل الإنسان إليها عن طريق أخر ،  غير طريق الإحساس فكأن المعرفة عنده حسية فقط. وبما أن أثاره الفلسفية تشير إلى وجود المعرفة العقلية في أبحاثه ،  فإننا نقطع بصحة هذا التعريف فيما لو كان مختصا بالموجودات الحسية ومعرفتها من هذه الجهة فقط. وقد عاكسه في المطلب أرسطو  ،  فإذا كان العلم عند أفلاطون يأتي من الإحساس الصادق فإن أرسطو يؤكد على أن العلم إنما هو صدق البرهان  ،  لما تميز به من أفكار منطقية.

        ولأنَّ الدرس المنطقي كان عند الفلاسفة العرب أكثر شمولية و أدق تشخصا ،  و تأكد أثارهم أو هي تشير إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا عظيما. الأمر الذي دعا لان تسير هذه السطور على تحقيق تعريفهم للعلم. فالأشعري: يعرف"العلم بما يوجب بمن قام به كان عالما"([iv])  وعند المناطقة هذا التعريف باطلا كذلك ،  أو تعريف للمبهم بمبهم غيره. لأنه قد وضع المشتق(العالم)  في حد المشتق منه(العلم)  ،  وهذا يحتاج إلى بيان ،  وإلا فمن لم يكن يعرف معنى أو(حد) (العالم)  ،  جهل التعريف كله ،  وهذه حجة الغزالي([v] ،  ولان من شروط التعريف أن لا يُعرّف المبهم بمبهم آخر بل يُعرّف بلفظ بيّن. كما أن هناك جملة من التعاريف يذكرها الغزالي ،  في أكثر من موضع ،  متناثرة في متون كتبه محك النظر و المنخول في تعليقات الأصول وقد أشبعت نقدا ،  وهذا يدل على رفعة الغزالي العلمية وهي:

العلم هو: ما يعلم به.
أو: صفة يتأتى للموصوف بها إتقان الفعل و إحكامه.
أو: تبين المعلوم على ما هو عليه.
أو: درك المعلوم.
أو: الإحاطة بالمعلوم.
أو: معرفة المعلوم على ما هو عليه.  

        وكانت حجته على التعاريف بالغة ،  نذكر منها حجته على التعريف الأول ،  في كون الحدود أصلا وضعت لغرض التوصل إلى بيان أو معرفة الشيء ،  ولا بيان في هذا التعريف. وقد عاود الغزالي لنقد هذا التعريف في كتابه(المستصفي)  و غيره ([vi] وما ذلك إلا لغرض التوصل إلى الحد الحقيقي للعلم. وبقية المناقشة الخاصة بالتعاريف السابقة الذكر سنعرض عنها لغرض الاختصار. والمهم أنها جميعها لا تصلح لان تكون تعريفا جامعا مانعا كما يعبرون في شروط التعريف المنطقية([vii].

        و أما المظفر ،  فيرى أن العلم هو"حضور صورة الشيء عند العقل"([viii] ،  وعلى الرغم من كونه يعد من أهل المعرفة بهذا المجال ،  إلا انه جعل العلم محصورا في(الصورة) . وحضورها في العقل شرطٌ من شروط التعريف ،  الذي يمكن أن يطلق على العلم ،  ومن الواضح أن الأشياء التي هي بمدار معرفتنا ،  لا تكون بشكل الجمع أو صيغته محتوية على الصورة ،  إذ ثمة أشياء لا صورة لها ،  والبعض الآخر من الأشياء وان كانت لها صورة إلا أنها غير مرئية. الأمر الذي دعا لان نحكم على هذا التعريف بوصفة غير جامع ولا مانع. ونلاحظ أن(الله)  تبارك وتعالى مثلا ليس بشيء ولا صورة له ،  و علمنا به تعالى لا يعتبر علما بحسب هذا التعريف ،  وهذا أمر لا يستطاع تقبله ،  ولذا فالتعريف الذي يقيده المظفر يكون جامعا مانعا للعلم الحسي أو المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس فقط.

        التعاريف المنطقية كثيرة ولا حصر لها ،  فمن خلال البحث والتقصي وجد الباحث تعاريفا أخرى منسوبة إلى الرازي أو المعروف بالقطب الرازي ،  وهو أن(العلم) : حصول نفس الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل. وبعضهم قال إن العلم هو : قبول النفس وانفعالها وتأثيرها بالصورة الحاصلة من الشيء. و أخر يقول : العلم هو انطباع صورة الشيء في الذهن ،  إلى غيرها من التعاريف([ix] التي لا تعد إلا فاسدة فيما لو راعينا الشروط المنطقية الخاصة بمبحث التعريف. ولكن هذا لا يعني أنهم ليسوا بمنطقيين. ولا يعني أنهم ليسوا بأصحاب معرفة. فلا يخدش ذلك أي شيء في مقاماتهم وعطائهم العلمي  ،  ولا يتصور البعض بأني ابغي التهجم على شخصياتهم العلمية  ،  أبدا ،  فأنا أود أن أوضح المطلب  ،  في انهم لم يعرفوا العلم  ،  وإنما وضعوا التعاريف هذه على سبيل وصف العلم ،  لا التعريف الذي يكون جامعا مانعا للمفهوم ،  فقد يُشْكَلُ على عامة التعاريف في كونها تناولت الجزئي دون الكلي ،  ولم يكن فيها حساب لمفهوم(العدم)  ولا حساب للمفاهيم الممكنة الوجود ،  ولا حساب لمفهوم المطلق إلى غير ذلك.

        هذا من جهة ومن جهة ثانية نجد أن المعرفة “لا تحصل بمجرد انعكاس الأشياء في الذهن – سواء أكان التصور ماديا كما يدعي الماديون ذلك ،  أم مجرداً كما يدعي أتباع الميتافيزيقيا – فإن انعكاس صورة الأشياء في المرآة لا يجعل المرآة عالمة بها ،  على اعتبار أن المعرفة تتحقق في حالة وجود وحدة بين المتصوِر(العاِلم)  والصور المنعكسة"([x](العاَلم) .

         و أما تعريف صدر الدين والعلامة الطباطبائي القائل بان العلم:هو“حضور مجرد عند مجرد"([xi]. فهو تعريف يشير إلى أن يكون الإنسان متصفا بتخليه عن المادة غير متعلق إلا بغيرها من الكمالات. فمقتضى حضور العلم للعالِم ،  أن يكون العالِم أيضا تاما في نفسه غير ناقص ،  من حيث بعض كمالاته الممكنة له. وهو كونه مجردا من المادة وهذا التعريف خاص لأهل الذوق والعرفان في تقدير الباحث.([xii] أما موارد نقده فهي“يرد على هذا التعريف انه لا يشمل العلم بالماديات بما هي ماديات ،  فإنها بما هي ماديات خارجة وفقا لهذا التعريف عن العلم والإدراك ،  ولان كون الله تعالى لا يعلم بالماديات بما هي ،  فهذا مطلب عجيب ،  وعلى اعتبار أن ما نريده من العلم هو إحاطة العالم بوجود المعلوم في أي مرتبة وجد فيها“([xiii].

        أما تعريف الشيخ محمد تقي اليزدي فهو“حضور ذات الشيء أو صورته الجزئية أو مفهومه الكلي لدى موجود مجرد“([xiv] ولا بد أن نضيف انه ليس من لوازم العلم أن يكون العالِم دائما غير المعلوم. و إنما من الممكن في بعض الموارد- كما في علم النفس بذاتها– أن لا يكون تعددا بين العالِم والمعلوم ،  وفي الحقيقة فانه في مثل هذا المورد تكون(الوحدة)  أكمل مصداق(للحضور) .

        يكتفي الباحث بذكر التعاريف السابقة ،  ويتبنى تعريف الشيخ اليزدي الاخير ،  لأنه تعريف جمع ما بين المادي والمعنوي. جمع بين المتشكل المرئي والمتشكل اللامرئي. جمع بين الحسي والمجرد([xv] ،  كما أن الباحث لا يعارض ما ذكره العلامة الشيرازي ،  وان كان الفيلسوف صدر الدين المعروف بالشيرازي يقول :"العلم من الحقائق التي إنيتها عين ماهيتها ومثل تلك الحقائق لا يمكن تحديدها إذ الحدود مركبة من أجناس وفصول وهي أمور كلية ،  وكل وجود متشخص بذاته ،  وتعريفه بالرسم التام أيضا ممتنع ،  كيف ولاشيء اعرف من العلم ،  وما هذا شانه يتعذر أن يعرف بما هو أجلى واظهر ،  ولان كل شيء يظهر عند العقل بالعلم به فكيف يظهر العلم بشيء غير العلم"([xvi].


 === الهوامش ===

([i]) . محمد محمود رحيم الكبيسي ،  نظرية العلم عند الغزالي ،  دراسة نقدية لطرق المعرفة ،  منشورات بيت الحكمة ،  بغداد ،  2002 ،  ص 25.

([ii]) . ابن سينا ،  التعليقات ،  تحقيق د. حسن مجيد العبيدي ،  منشورات بيت الحكمة ،  ط1 ،  بغداد ،  2002 ،  ص63.

([iii]) . الغزالي ،  المستصفي من علم الأصول ،  ط1 ،  مصر ،  1422هـ ،  ص 25.

([iv]) . الغزالي ،  المنخول من تعليقات الأصول ،  تحقيق محمد هيتو ،  دمشق ،  1970 ،  ص 36

([v]) . ينظر ا لمصدر السابق والصفحة.

([vi]) . ينظر:الكبيسي محمد محمود رحيم ،  نظرية العلم عند الغزالي ،  مصدر سابق ،  ص 20.

([vii]) . يذكر المناطقة جملة من الشروط وهي:1. لا يجوز التعريف بالأعم ،  مثل تعريف النحت بأنه فن ،  لان الفن اعم من النحت ،  والسبب في ذلك هو دخول الموسيقى والمسرح والرسم وغير ذلك. 2. لا يجوز التعريف بالأخص ،  مثل تعريف الإنسان بأنه طبيب أو مهندس أو فنان ،  لان الأخص لا يكون جامعا مانعا ،  فهناك إنسان وليس هو بفنان و طبيب. 3. لا يجوز التعريف بالمباين ،  مثل تعريف النحت بأنه حجر. 4. لا يجوز التعريف بالمبهم ،  مثل تعريف الممثل بما يكون فاعلا أو منفعلا. 5. لا يجوز التعريف بالدور ،  وهو على نوعين(واضح) كما في قضية البيضة والدجاجة مثلا ،  أحدهما متأخر أو متقدم في آن واحد ،  و أما الدور(المضمر) فيقع بمرحلتين أو اكثر ،  مثل تعريف الاثنين بأنهما زوج ،  والزوج منقسم إلى متساويين ،  والمتساويان يعرفان بأنهما شيئان ،  والشيئان يعرفان بأنهما اثنان وهكذا ،  ندور وصولا إلى التعريف الأول. ينظر في ذلك: سيد حسين الصدر ،  دروس في علم المنطق ،  ط 1 ،  مطبعة الزهراء ،  بغداد ،  1997 ،  ص 15.

([viii]) . الشيخ محمد رضا المظفر ،  المنطق ،   ص 14.

([ix]) 0 أدرجت التعارف هذه على الرغم من عدم ذكر المصادر لها ،  وذلك لقدم الاقتباس وتلف أجزاء كبيرة منه.

([x]) . السيد حسن إبراهيميان ،  نظرية المعرفة ،  ت:الشيخ فضيل الجزائري ،  ط1 ،  نشر مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر ،  لبنان بيروت ،  1425 هـ – 2004 م ،  ص 34.

([xi]) . المصدر السابق ،  ص 37.

([xii]) . ينظر المصدر السابق ،  والصفحة ،  حيث يؤيد ذلك.

([xiii]) . المصدر السابق ،  ص 38.

([xiv]) . محمد تقي مصباح اليزدي ،  المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ،  ت: محمد عبد المنعم الخاقاني ،  ط ،  مؤسسة النشر الإسلامي ،  1409 هـ ،  ص 135.

([xv]) . لمزيد من المعلومات ينظر: الشيخ جعفر سبحاني ،  نظرية المعرفة ،  مدخل إلى العلوم والفلسفة والإلهيات ،  ترجمة الشيخ حسن محمد مكي العاملي ،  مؤسسة الإمام الصادق(ع)  ،  قم المقدسة ،  1424 هـ ق ،  ص 17-34.

([xvi]) . السيد صدر الدين محمود الشيرازي ،  الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ،  مطبعة أفق ،  م 3 ،  ط1 ،  مركز توزيع النجف الأشراف ،  سنة 1425 هـ ،  2005 م ،  ص 221. 

الأحد، 24 يونيو 2012

المنطق والمعرفة ، والحاجة الراهنة .

"((اطالب بأن يكون علم المنطق درسا منهجيا في المراحل التعليمية كافة))" 



المعرفة هي الإرث الحقيقي في تصور العقلاء، والتي تناقلت من فترة إلى أخرى بجهد الطالبين لها، وحيث لم يقوى الإنسان في بداية الأمر إلا أن يكون بدائيا في تعامله مع المعطيات فالإنسان اليوم يقوى على أن لا يكون كذلك، ولعل الأمر الحقيقي الذي يعد فاصلا بين كلا الحالتين هو(المعطى)، أو المعرف من بين جملة المجهولات أو المبهمات، و إذا ما أخذنا بالقول الذي ينص على إن الإنسان في بداية الأمر استطاع من خلال مواجهة المشاكل أن يبتكر حلولا تعد بالنسبة إليه انتقالات معرفية، فإننا سنقطع بان البدائي ليس بدائيا، إلا بطريقة استعمال المادة(المعطى المعرفي) أو كيفية استخدامها، إلا أن هذا وحده لا يعد مبررا كافيا لتقبل مثل هذه الفكرة من دون تحفظ؛ لعدم وجود الأدلة التي يمكن الاستناد عليها حيال ذلك؛ لان الداعي لوجود الفكر أو التفكير عند الإنسان في هذا القول، عد مشروطا بوجود المشاكل ومواجهتها، فلا يمكننا اعتماد هذه الفكرة وإن كانت المسيرة الإنسانية من جهتها المعرفية في تطور مستمر. وخير دليل على ذلك زماننا الحاضر، الذي انتقل انتقالاته الحالية الموصوفة بالتقنية الإلكترونية.

ولهذا يمكن عدّ السعي خلف المعرفة والبحث طلبا عنها من قبل الإنسان موصوفا(بالملَكة)، والذي لا يعني إلا أن يكون السعي بحثاً عن المعرفة من ملكات الحياة أو الوجود الإنساني، سواء أكانت هناك(المشاكل) أو لم تكن، إلا أن هذا لا يعني إلغاء وجود العوزات المتغيرة والمتنوعة والمعبر عنها بالمشاكل، فإن لها أهمية تكمن في كونها دوافع للسعي عن المعرفة، بل تعد أحيانا مبررات مهمة في مشروعية البحث – أي بحث علمي - ، وليس الغرض من الكلمات التي تقدمت، إلا التأكيد على أهمية المعرفة التي طالما تعلقت بالأمر المبهم، أو(المعميات)، والتاريخ يذكر لنا كيف استطاع الإنسان من خلال البحث والتجريب، أن يكشف المبهمات ويحيلها إلى مواد معلومة بالنسبة إلينا. وهكذا حتى بلغت المعرفة أوج عظمتها حينما انتقلت انتقالاتها الأولى في كشف النظام المجرد وصهره لتكوين اللغة. وعن طريق تراكباته يمكننا التفاعل مع الآخرين لأنه الوسيط الأمثل الذي يكون مادة للتعامل.

هذا(النظام) الذي ابتكره الإنسان تحديدا في منطقة بلاد الرافدين في الفترة الحضارية (السومرية) يعد بحق أول مراحل التفكير السليم، إذ يعد هذا الابتكار في بنية الخطاب من خلال اختزال الثنائية التي تتمثل في(العنوان والمعنون)، كشفا عن تداول مشفر للمعنى ، وكشفا كذلك لانتقالات المعرفة، لا لكونه ابتكاراً فقط أو لأنه نظام طيع في متناول الآخرين، و إنما لكونه قابلا لاحتواء فعل التعبير في المعنى أو(المعنون) ومشيرا إليه، أيا ما كان نوعه أو جنسه أو فصله، وللشكل الفني دور كبير في ذلك كما بينته في كتابي الأول ، الوعي الجمالي[1].

ولكن غاية الأمر في المسيرة المعرفية الإنسانية لم تكن في ابتكار الوسيط من قبل الإنسان، و إنما في كيفية الابتكار، ولعل هذا الأمر هو الذي دعا لان يكون مفسراً لتساؤلات تخص وجود القاعدة التي تربط ما بين مفاصل النظام نفسه، وكشف العلاقة فيما بينهما. كما يبدو أن القاعدة هنا أكثر تجردا من النظام ولهذا سعت الدراسات والأبحاث بعد ذلك لكشف هذه القواعد التي يعمل فيها النظام، والتي(يظهر) من خلالها نظاما متكاملا، على الرغم من إيماننا بأنه لا ينفك عن كونه تكاملاً نسبياً. ومن تلك الدراسات التي سعت لكشف القواعد أو(القاعدة) في النظام هي الدراسات اللغوية، و أولى تلك الدراسات وجدت في ارض الرافدين كذلك، غير أنها بالتأكيد ليست بمثل الدراسات الحديثة من جهة تناولها لمفهوم(القاعدة) التي يشتغل عليها النظام، ويمكن عدها أحد الدراسات الجنينية لمثل هكذا أبحاث، ولكي لا يأخذني الغلو في تمجيد السومريين، أود الإشارة فقط إلى أنهم أول المؤسسين لهذا الدرس اللغوي، ومن ثم وجدت الفلسفة لها طريقاً في المسيرة الإنسانية، بعد عناء من البحث المعرفي دام ثلاثة آلاف سنة تقريبا، حيث امتدت هذه الفترة من عصر أو مرحلة اكتشاف الكتابة، إلى فترة أو مرحلة الفلاسفة اليونانيين. فظهرت الدراسات المنوعة التي تحدثت عن غائية القواعد التي تحكم أواصر النظام، ومن هؤلاء الفلاسفة(أرسطو)[2] حيث أشار في كتابه(المنطق)، إلى كشف القاعدة التي تبرهن على صحة النتائج، في ما لو تم مراعاة تطبيقها عند التفكير.

وعلى الرغم من عدم تأكيد المدعى الذي يستشف منه أن(أرسطو) قد ساهم في تأخير البشرية بمثل هكذا تحرك نحو(الغاية) في كشف القاعدة أو(النظام)[3] ، نجد انه قد فتح الأبواب على مصراعيها أمام الساعين إلى طلب المجهول التصوري، أو تحويل المعلومة المعرفية غير المكتسبة إلى معلومة مكتسبة. وإلا فماذا يكون تطور المعرفة في ذات الجوانب التي تناولها(أرسطو) نفسه، غير كونها جوانب وجدت لها ما يدعو لوجودها، متعكزة على آثاره الأولى ومتخذةً منه منهاجاً قابلا لان يستحدث، انطلاقا من كون المعرفة ذاتها إرثا عاما. كما أن الأمر وان كان يبدو من جهة الإنشاء أو التكوين انه أمر طبيعي، وكذلك من ناحية(الارتكاز) أو حتى من ناحية توالي أو تتالي المراحل، إلا انه أمر مهم في سلسلة الحدث المعرفي بشكل عام.

 وبهذا لا يعاب البحث المنهجي الذي انشغل فيه أرسطو لكشف(نظام القاعدة المنطقية). ولا يحق لنا أن نصفهُ بأنه نظاماً لا جدوى لوجوده؛ لان هذا الوصف سوف لن يكون إلا قاصيً لكل الأنظمة التي تشتغل على القاعدة، كالرياضيات والفيزياء وغيرهما من المعارف، وبالتالي فهو إقصاء لنتائج المعرفة على شكل متواليات متسلسلة. ولان الإنسان بطبيعة الحال يتميز عن الموجودات(المخلوقة) بأنه واضع للمعرفة، أو المعارف النسبية بشكلها الشمولي. فكل العمليات الناتجة عن التفكير الإنساني، لا تكاد تخلو بأي شكل من أشكال الوعي و القصد في طرحها؛ ذلك لأنها أفكارا موضوعة من قِبلَهِ، حتى وان كانت بعض أفكار الإنسان تأتى إما لشدة التحسس و الإدراك المباشر للمفاهيم كما عند الحدسي، أو لشدة الاغتراب والعمل في إطار لا يحكمه التخطيط المسبق، اعتمادا على قدرة التجريب في ابتكار المنتج، إلا أن الإنتاج البشري الفكري لا يخرج إلا بقصدية واعية إلى المتلقي، على أن يكون لهذا(الفكر) أو المنتج، تأثيره المباشر العميق أو السطحي، لأنه مؤثرا تتأثر به المجموعة لاسيما وهو يعبر بطريق ما عنها؛ وذلك لأجل التخلص من المصاعب والتوجه نحو السعادة، ولو في فهم الأشياء واستثمارها على الأقل، ناهيك عن تحقيق المطالب وجعلها هدفا.

كما أننا نجد أن المعرفة في تناقل مستمر، وهي بهذا التناقل ترفد إلى جوانبها إضافات تأتي عن طريق تراكم الخبرة المكتسبة، سواء أكانت الخبرة قادمة من خلال تعامل الأفراد مع الأشياء لانجذابهم إليها- كما في التخصص- أو من خلال تعامل المجموع مع الظاهرة لأجل الخلاص منها أو تجاوزها. فالمعرفة تكاد تكون أشبه بالموروث الذي ترثه الأجيال لتقدمه إلى لاحقتها، ويجري التناقل مبطنا بهكذا غاية أساسها رفعة الإنسان من خلال تطوره، أو من خلال معرفته للمجهولات العامة. ومن هذه المعارف التي تناقلت من شكل إلى آخر متطورة شيئا فشيئا حتى بلغت ذروتها هي(المعرفة المنطقية)، التي يستند عليها الفكر الإنساني، لأنه قوام يحتاج إلى التنظيم أو إلى قواعد من خلالها يتم الوصل إلى نتائج تكون(سليمة) خصوصا أثناء عملية التفكير، هذا التنظيم جاء في علم المنطق لأول مرة وكما هو مشهور على يد أرسطو طاليس. وبوجه عام يمكن إدراج هذه التوجهات المنطقية، تحت نظرية(المعرفة الكلاسيكية)كما يعبرُ عنها[4]؛ وذلك لقدم تناول مطالبها العقلية أو الفكرية.

إلا أن هذا لا يعني أن المنطق كعلم، بما هو، لم يكن من جهة الوجود موجودا أو لم يكن الإنسان عاملا أو مشتغلا به، بل على العكس، والدليل انه كمفهوم معرفي كان الاشتغال به معلوما حتى قبل أرسطو، ثم نقلت إليه على شكل أبحاث دُفَعَّية. فهو أي المنطق كفكرة لم يولد عنده أو يكون هو المؤسس الحقيقي و الجنيني له[5] ، خصوصا وان المنهج الفيثاغورسي مثلا السابق للمنهج المثالي الأرسطي، تعامل مع الأشياء بإرجاعها إلى أجزائها وبالتالي تكون هذه الأجزاء غير منفكة عن مفاهيمها الكلية، و هذا دليل على وجود المباني المنطقية ومسمياتها على الأقل، أو إن الاشتغال بها عند المفكرين في ذلك الزمان كان معلوما، ثم تناقلت حتى وصلت(أرسطو) فمنهجها بكتابة المنطق تحت عنوان(الكليات والجزئيات)مثلا، بوصفها أحد الأنظمة التي يعمل بها الذهن البشري، وهكذا حتى وصلت إلى الإسلاميين، ثم إلى المفكرين من بعدهم وصولا إلى يومنا الحاضر، الذي يتمثل بالسعة والشمولية المعرفية.

ونحن بتأكيدنا لهذا نرجح أن يرد الاشتغال المنطقي إلى مرحلة موغلة بالقدم، تصل بحسب الاستقراء إلى نشأة الفكر الإنساني نفسه، فلنأخذ المسالة بشكل توسعي ونتوجه نحو النتاجات القديمة في مضمار الفكر القديم اللامنهجي، أو اللامنتظم بحسب قول الكثير من المختصين، وذلك لكون الإنسان قديما " لا يميز بمثل طريقتنا الاستدلالية ما بين الواقعي و الخيالي" [6] ، فمثلا عمليات السحر التشابهي والتشاكلي التي يعتقد أنها أول مرحلة من مراحل التفكير البشري التي يقوم بها الإنسان البدائي على شكل طقوس خاصة. أليست هي نوع من أنواع الدلالة ؟، وهي في تقسيم المعاصرين لأجزاء الدلالة تعد دالاً، ولهذا لا بد أن يكون لها مدلول، ومدلولها هو الغرض(المضامين الفكرية)، أو ما يترتب عليه الأثر الناتج من الطقس السحري نفسه، وإلا فلماذا تعمل أشكال هذه الطقوس، ولماذا تقام مراسيمها أصلا.
تأيدا لذلك يقول استأذنا الدكتور العلامة زهير صاحب" إن في معتقدات إنسان عصر ما قبل التدوين الأولى، في[العمل] الدؤوب لترويض الطبيعة بالممارسات والشعائر الدينية والسحرية، وإدراكه الخاص بحيوية المادة، واهتمامه بفاعلية التمثيل الفني للظواهر، و ملاحظة قوانين الطبيعة، وتواصله الروحي مع معظم الظواهر المتحكمة في مفردات حياته. قد وجدت لها حالة من الوعي والتشكيل الجديد في النتاجات التشكيلية، فأكسبت معنى ودلالات روحية وبما يتماشى وطبيعة هذه المرحلة الحضارية الجديدة. فهو عالم من القيم المطلقة[التي]تعلو عالم الظواهر المتغيرة ويتحرر من جميع تعسفات الواقع المعاش" [7].

 نعم قد لا يكون البدائي حين اشتغل على مثل هذه الشاكلة واعيا بما تعنيه(الدلالة) للإنسان الراهن، من خلال معرفته بالمادة العلمية المعاصرة، إلا إن الأشكال الطقوسية تأيد وجود مثل هذا(النظام)الدلالي،" فللقرن مثلا دلالة على القوة وللثور دلالة على الخصب والإلوهية كما في حضارة العراق القديم، وللنذور في كافة الحضارات دلالة على الطاعة وكما للون دلالات، وللدخان والأبخرة دلالات كذلك " [8] . وقد تتخذ المسالة قاعدة اكبر واعم من جهة الشمولية، لتتبع الطريقة التي نتوصل بها إلى الأفكار المجردة والتي نعمل بها في عقلنا المجرد، فيصبح التفكير في حد ذاته قائما على الدوال التي توصل إلى المدلولات أو(النتائج)، ولا يخفى أن الدلالة هي أحد مباحث علم المنطق أيضاً.

وهكذا لو تناولنا المباحث الباقية في جانب التصورات المنطقية كالقسمة والمفرد والمركب والكلي والجزئي...الخ، لوجدنا لها استخدامات كثيرة ومتنوعة في شتى مجالات الحياة الفكرية والعملية والعلمية، سواء أكان ذلك في ما قبل التاريخ أو بعده، على الرغم من وجود الفوارق ما بين الفترتين من جهة فهم ودراية وتحصيل المعلوم التصوري.

وعلى أية حال فإن لعلم المنطق(موضوع المقال) وجوده القائم بذاته [9] ، وهو من العلوم التي تبحث لغيرها، والتي تستخدم لغرض الحصول على الغاية، عوضا عن كونه من العلوم الآلية التي تعتمد على(القاعدة أو النظام)، في جميع خطواتها [10] ، وهو بهذا يعد الكاشف الحقيقي لصدق اغلب النتائج أو عدم صدقها، فيما لو راعينا تطبيق قواعده على النتائج نفسها، وهو الكاشف الحقيقي كذلك للمباني المعرفية في النتائج. وهنا يجب الاعتراف بان المؤشرات في الفكر البشري في ما يتعلق بالموضوع، كانت على جانب كبير من الأهمية في بلورة المعرفة، لاسيما عندما تكونت المجتمعات بشكل مجموعات، لها ما تملك من مقومات العيش والسيطرة على اغلب مصاعب الواقع، نتيجة للعمليات التجارية والزراعية والسياسية...الخ، وبشكل أخص عندما عرفت هذه المجتمعات المواد الأولية، التي تمثل الوسائط الاتصالية أو التي تمثل الأشكال، سواء أكانت تشبيهية أم لا، وبعد الأشكال الرموز حيث تعتبر الرموز، نوعا من أنواع الاختزال الشكلي لبنية الهيئة المصورة أو المرسومة. وكذلك الأمر مع الكتابة، حيث تعد تطورا تاريخيا في مسيرة الإنسان الفكرية، فهذه الوسائط التي تطورت شيئا فشيئا لأجل أن تكون مادة للتفاهم اللامحدود والعمومي؛ لأنها تمتلك قواماً استطاع الإنسان من خلاله أن يتعامل به ويستوعب طرفي الموجودات(المحسوسة المتمثلة أو المعقولة المجردة)، من خلال الشكل المصور أو من خلال إطلاق التسمية اللغوية عليها، و إدراك الترابط ما بين الشيء واسمه أو شكله.

 وذلك لان اللغات عموما، هي في أصلها لغات أنشأت على الاتفاقات والوضع، وما ذلك إلا لكون الإنسان " اجتماعيا بالطبع مضطرا للتعامل والتفاهم مع باقي أفراد نوعه، فانه محتاج إلى نقل أفكاره إلى الغير وفهم أفكار الغير. والطريقة الأولية للتفهيم هي أن يحضر الأشياء الخارجية بنفسها. وليحس بها الغير بإحدى الحواس فيدركها ولكن هذه الطريقة من التفهيم تكلفه كثيرا من العناء. على أنها لا تفي بتفهيم أكثر الأشياء والمعاني إما لأنها ليست من الموجودات الخارجية أو لأنها لا يمكن إحضارها " [11]، الأمر الذي دعا لان نناقش التصورات والتصديقات المنطقية المرتبطة بموضوع العلم في ما يأتي، على أساس أن الشكل منذ الوهلة الأولى التي صار يمثل فيها المعنى، دخل في أطر الاتصال والمنظومة الاتصالية.

أجد انه من المناسب التحدث عن أهمية الدراسات المنطقية في مجال الإبداع الإنساني، وفي شتى المجالات التي لا تفهم إلا من خلال(المنتَج) سواء أكان المنتج فنيا أم أدبيا أم رياضيا... الخ، إلا أن المتفحص المتطلع سوف لن يجد المنطق الصوري إلا بمعناه المدرسي المستخدم الآن في بعض المعارف الإسلامية(كالحوزة العلمية في النجف الأشرف) و(الأزهر الشريف في القاهرة) وغيرهما من مراكز العلم الدينية، وما ذلك لأجل نفس المنطق و إنما لغيره، فهم يستفيدون منه في تقديم أراء الفقهاء، ويدرسونه لبلوغ المطالب الأصولية كذلك، من خلال تحقيق نتائجهم بقواعد هذا العلم. كما أود أن أشير إلى أن الدرس المنطقي في هذه الأوساط يبدوا محكما، إلا انه محكما في مجال هكذا استخدام فقط، فضلا عن الأوساط الجامعية الأكاديمية في كليات الفلسفة والآداب.

والحقيقة لا ادري ما هي الموانع من تفعيل هذا العلم المعياري أو الفاحص للنتائج في كل الأوساط التعليمية ، خاصة وانه بالإمكان تحويل مطالبه إلى نماذج تعليمية مبسطة ، لتحقيق أنموذج فاعل من الطالب الأكاديمي اليوم ، لاسيما ونحن نبغي تفعيل الحراك الفكري لنهضة عربية معاصرة. على الأقل لها القدرة في مواكبة التقدم العالمي .

كما أن المفاهيم التصورية في هذا المنهج المنطقي ، هي من المفاهيم التي لا يدعي أحد بأنه أوجدها، لأنها من جهة الوجود موجودة بالفعل، سواء أعلم بها الإنسان أو لم يعلم، وبهذا فليست هي لأحد أو لمذهب أو لمنهج وغير ذلك، أما أن أرسطو قد نظر فيها وكتب وآلف، فهذا لا يعني انه اكتشفها أو أوجدها، فالمسألة من قبيل(الماء) المحلل في المختبر إلى(H2O)، فالكيميائي حين حلل الماء لم يكتشفه، و أرسطو حين نظر في المفاهيم لم يكتشفها كذلك، لان كليهما موجود، غير أن الماء موجود مادي، والمفهوم موجود ذهني، وهكذا أو على هذا الأساس أقول: إن المفاهيم حصولها في الذهن حصول شأني، أي ما من شأنه الحصول، والشأنية لا تشير إلى إن المفهوم لم يكن موجودا بالفعل، وحين حصل في الذهن صار موجودا، إذ إن وجوده اسبق من وجود معنى الحصول الشأني له، فإذا ثبت ذلك، صار من حقنا الرجوع إلى هذه المفاهيم، و أخذها بنظر الاعتبار وإغراق النظر فيها، بعد أن تداولها الفلاسفة الإسلاميين بالبحث والتدقيق، وجعلوا منها قواما فكريا يحق لنا أن نسميه أو ننسبه إليهم، و استخدام هذه المفاهيم في مناهجنا الدراسية.



احمد جمعة ، كلية الفنون الجميلة ، جامعة بغداد ، 24-6-2012
 ======

[1] ، احمد جمعة ، الوعي الجمالي ، دراسة في التطبيقات البصرية الشكلية ، دار الأصدقاء، بغداد ، 2009.

[2] . مؤسس علم المنطق، ويسمى بالمعلم الأول، و هو أحد طلبة افلاطون المميزين، فسماه أستاذه بالعقل والقراء لذكائه واطلاعه الواسع، ولد سنة 384 ق.م في مدينة (اسطأغير)، كانت أقواله تستند على القواعد المنطقية فكان أصحاب الفكر في خلافاتهم الفكرية يرجعون إليه، كما إن أرسطو سيطر على الفكر الأوربي حتى مطلع العصر الحديث كما يعبر نقاد الفكر الفلسفي عن ذلك. ينظر: د. نجم عبد حيدر، علم الجمال. آفاقه وتطوره، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة، ط 2، بغداد، 2001، ص 31، 32. وكذلك: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 112. 

[3] . ينظر: السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي،ط 2، مطبعة السرور 2002، ص 13 - 66.

[4] . ينظر: دوروف و آخرون، المرجع والدلالة في الفكر اللساني، ت: وتعليق عبد القادر قنيني، دار افريقيا الشرق للنشر، بيروت لبنان، 2000، ص 9. 

[5] . للسيد كمال الحيدري، قرص ليزري صادر من مؤسسة الثقلين الثقافية بعنوان(دروس في المنطق)، المحاضرة الثالثة. إلا انه يشير إلى قدم المسألة للفهلويين والباحث يشير قدمها إلى السومريين.

[6] .  ينظر:هربرت ريد،حاضر الفن، ط2، دارالشؤون الثقافية، وزارة الثقافةوالإعلام، بغداد، 1986،ص22- 23 

[7] . زهير صاحب، و آخرون، دراسات في بنية الفن، مطبعة إي – كال، بغداد، 2002، ص 10. 

[8] . محاضرة: تاريخ الفن القديم، للأستاذ د. ناصر الشاوي، ألقيت لطلبة الدراسات العليا الماجستير، 2002، جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة، مدونة من قبل الباحث. 

[9] . جهة الوجود هنا غير ذاتية بما تعنيه الكلمة وإنما هو وجود غير منفك عن احتياج الغير.

[10] . يشير إلى ذلك جملة واسعة من الباحثين مثل: بكري محمد خليل، المنطق عند الغزالي، مطبوعات بيت الحكمة بغداد، 2001، ص 52. 

[11] . محمد رضا المظفر، المنطق، ط4، مطبعة حسام، بغداد، 1982، ص 32.

الخميس، 21 يونيو 2012

الجماعات والطقوس التعبدية والولائية.



قبل يومين مر على (العراق) - وهي ليست المرة الاولى التي يمر بها هذا البلد الجريح على مر التاريخ - محاولات همجية وغريبة لا اعتقد بأنها صدرت عن مسلم أو عاقل أو إنسان ، فمن يعمد إلى قتل أخيه الإنسان كأنما قتل الناس جميعا ، الرحمة لكل إنسان غادر الحياة جراء تصرفات الهمجيين والوحشيين على هذه الأرض التي حولناها وللأسف محط صراعات أنتجتها عقولنا في كثير من الأحيان . ولأجل ذلك كتبت هذه السطور.

يذكر علماء الاجتماع أو علماء الانثروبولوجيا بأن الطقوس : هي مجموعة حركات سلوكية متكررة يتفق عليها أبناء المجتمع وتكون على أنواع وأشكال مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الفاعل الاجتماعي أو الجماعة للقيام بها. ولا فرق بين أن تكون قديمة أو جديدة مستحدثة ، لكننا في الآونة الأخيرة شهدنا حراكا اجتماعيا تواصليا يكاد أن يكون كونيا ، نتيجة وسائل الاتصال وتطورها ومساعيها في اختزال المكان والزمان ، وقد سبب هذا لحدوث طقوس كونية تشتمل على تجمعات مليونية عظيمة وهي بلا شك تمثل التعبير عن محتوى الفكر الذي ينظم الجماعات في تصرفات سلوكية معينة كما يذكر علماء الاجتماع ، والمتطلعين يعرفون بان أولى الممارسات الطقوسية كانت مع بوادر التفكير السحري في المجتمعات البدائية ، ثم انتقلت الطقوس بعد ذلك لتمثل الجماعات البشرية ضمن معتقدات وثنية اذكر منها تلك التي مرت على بلاد وادي الرافدين وبلاد النيل والإغريق وغير ذلك ، فقد كان الناس يدينون بالإلهة المتعددة ويقومون بطقوس تعبدية جماعية للتعبير عن ولائهم وخضوعهم لما يؤمنون به وما يتصورونه من أفكار . لكن بعد أن جاءت الديانات السماوية الأخيرة كاليهودية والمسيحية والإسلامية تحولت  الطقوس إلى نظم أدائية مختلفة ، فكل ديانة تعكس في تصرفاتها الجمعية ما يمثل هذه الديانة عينها من تصرفات تعبدية ، والأمثلة في ذلك كثيرة ومنها معاصرة أو راهنة ، غير أن الطقوس الإسلامية تقسم إلى قسمين :

الأولى وهي : الطقوس التعبدية المنصوص عليها كالحج والعمرة والصوم والصلاة وغير ذلك مما صرح به في القرآن الكريم.

والثانية وهي : الطقوس الولائية غير المصرح بها أو منصوص عليها في الكتاب العظيم (القرآن الكريم) ، وإنما يعتمد المسلمون فيها على نصوص روائية.

والمعروف بأن الإسلاميين يمتلكون في الاستدلال على تلك النصوص طرقا مختلفة ومتعددة وان كان الاستدلال في حقيقة أمره واحدا. إلا أنها في الغالب لا تنفك عن القدسية التي يسبغها عليها رجالات العلم من كل فريق أو مذهب، بناء على حججهم العقلية التي يصاحبها الحديث المروي ، كما انه ليس شرطا أن يكون الحديث مرويا عن النبي (صلى الله تعالى عليه وعلى اله وصحبه وسلم) لتتمثل به الحجية ، بل يمكن له أن يتصف بالحجية وان كان مرويا عن رجال العلم الذين بينهم وبين زمن الرسول (ص) قرونا عديدة ، كما في الطرق الصوفية وإقامة المواليد للأولياء والأقطاب (رحمهم الله تعالى جميعا) ، بنقر الدفوف وقرع الطبول والترنح والدوران والتلاعب بالنيران، والدراويش بضرب الخواصر بالسيوف ، وغرس الرؤوس بالسكاكين وطحن الزجاج بالأسنان والمشي على النار في تموجات جسمانية وغير ذلك مما هو خارج عن مألوف المجتمع الإسلامي في الأيام الاعتيادية بشكل عام، وكذلك في الطقوس الدينية الولائية الأخرى عند محبي أهل البيت عليهم السلام ، في لطم الصدور وضرب الرؤوس بالسكاكين بما يعرف بـ(التطبير) وغير ذلك، والملفت للنظر أن الفكر الأخلاقي الذي  تنادي به هذه الطقوس الولائية الإسلامية ، كلها ذات مشرب واحد ، ويحمل رفعة الأخلاق وسمو النفس ، فكل متدين طقسي يحث صاحبه بما يحث عليه الدين من تجاوز المحارم أو تركها ونبذ كل ما يشين النفس ويبعدها عن مطلبها الصحيح ، لطلب القرب من الله تعالى عز وجل ، والجماعات لأجل ذلك لها مريدين كثر ، ولو كانت تدعوا إلى غير ذلك لنفر منهم الناس جميعا ، لأننا ندرك أن ميل الإنسان إلى رفعة المقامات السامية هو ميل فطري ، والأخلاق والفضيلة إنما هي مطلب كل المسلمين ، وهو من دون شك قادم من الفكر الإسلامي السمح الذي جاء ليكون متمما للأخلاق ، غير أن هذه الطقوس بما هي جماعات متدينة ، وللأسف الشديد يقابل بعضها البعض الآخر بالحقد والضغينة ، فتجد هذه المجموعة تتحدث عن الأخرى بوصفها بدعة ، ولم يأت الإسلام بها ، وأنها كفر بل وهي شيطنة ، إلى غير ذلك من التعابير التي تركت ورائها كل تلك الدعوات التي تنادي بالأخلاق وبالفضيلة. وهذا أمر ليس صحيحا أبدا بل وهو مخالف لكل قواعد الاستدلال العقلي تلك التي انبثقت منها الطقوس الولائية في بادئ الأمر ، ومن العبث أن يجعل الفرد من اعتقاداته أنموذجا مثاليا ولها مرجعياتها الصحيحة وبالمقابل يقوم بتكفير ما عداها ويصدر الفتوى بذلك وينفق الأموال لمحاربتها ، ومن هنا بدأ الصراع الداخلي بين جماعات المسلمين وبدأ التنافر ، وبدأ يسيطر على الأمة أصحاب رؤوس الأموال ودول واستراتيجيات مستقبلية وحروب إعلامية ودور نشر ومواقع الكترونية وغير ذلك ، وتناست هذه الأمة بأنها امة وسط وعليها أن تكون أمة واحدة ، بحسب دعوى القرآن الكريم والرسول الأعظم، ولا ننسى أن الفكر الإنساني بما هو رحمة ومنحة كونية إلهية للإنسان في (العقل والتعقل) ، اخذ يبدو وللأسف نقمة لاختلاف الأمة في الفروع الشرعية وأدائها العملي ، وبهذا أصبح الخلاف شاملا للطقس التعبدي المنصوص عليه وللطقس الولائي غير المنصوص عليه.

أجد انه لمن المناسب هنا الإشارة إلى فكرة (الاختلاف) ، فالاختلاف في الأفكار والتصورات التي ترتبط بالواقع العيني لا يجب أن تكون محطة لإزاحة الآخر، وإنما يفترض أن يكون الاختلاف مصدرا من مصادر التفكير والحوار وتبادل الآراء وغير ذلك ، ولعل هذا الأمر مما يصعب تحقيقه أبدا ، وفي كل المجتمعات ، المتدينة وغير المتدينة ، ومن كلا الجهتين معا ، فنحن لا نستطيع تصور مجتمع ما يخلوا من الاختلافات في الأفكار والتصورات ، كما لا نستطيع أن نتصور مجتمع ما متفق تماما على الأفكار والتصورات ، وقديما قيل أن المشكل التصوري هو الذي يؤكد حضور المعرفة فينا ، وعالَم بلا مشاكل معرفية حتما سيبدو عالم متصحر ، إن لم يكن عالم كل ما فيه يدعو الى السبات ، فالاختلاف اذن رحمة ، وهذا ما اكد عليه الرسول الأعظم في حديثة الشريف (اختلاف أمتي رحمة).

غير أننا جعلنا من الاختلاف سبة وأصبع اتهام نوجهه إلى الآخر ، وهناك ما يدعو للخجل من هذه التناحرات بين هذا الفريق أو ذاك ، ومن دعوى التكفير والتفجير والتهجير والقتل وإباحة الدماء والتربص والرصد وغير ذلك مما لا يليق بالإنسان بشكل عام فضلا عن الإنسان المسلم ، وواقع الحال يؤكد نسيان هذا المجتمع لقيمة الإنسانية العليا ، نظرا لما يمثله الإنسان من قيمة كونية قدسية ، ولا أريد أن أبين أسباب تعظيمه لأنها معروفة لدى الجميع، ولا بأس بالتذكير بالاية الكريمة (ولقد فضلنا بني ادم على كثير ممن خلقنا) ، فهل يعقل أن يكون الاختلاف فيما بيني وبين الآخر ، أو بين هذه المجموعة وتلك ، مدعاة لمثل هذه التصرفات ، التي أراد أن يشير إليها الملائكة بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). علينا إذن أن نؤكد الاختلاف فينا وان نحترم دعوى الآخر لنكون خير امة فعلا ونعيش بسلام وتحضر.


لكن كيف نحقق ذلك؟
أجد أننا بحاجة إلى مشروع ثقافي اجتماعي ديني يرفض تلك الجوانب الوحشية في إقصاء (الأخر) وعزله وتهميشه بتلك الوسائل المخزية، وان يستشعر الإنسان (الآخر) همجية هذه الأفعال التي تؤكد نسف (الآخر) بوسائل مدمرة ولا تمت للوعي بأي شكل من الأشكال ، والملاحظ النبيه والفاحص المتمعن يجد في مثل هذه التصرفات التي تستهدف الجماعات نوعا من الهيمنة والغطرسة وفرض الرأي على الرأي الآخر ، في حين على (الآخر) أن يبدو (أنا) ما دمت (أنا) بذات الوقت أبدو (آخر)، هذه هي الوحدة التي يجب أن يسعى لها المشروع الثقافي الاجتماعي الديني ، فعلى الرغم من الاختلاف علينا الرجوع إلى المحور الإسلامي بكل ما فيه من دعوات لرفعة الذات ، ألسنا نرى بان الدين بل وكل الديانات على العموم السماوية منها وغير السماوية تؤكد على احترام الآخر (لكم دينكم ولي ديني) ، فأي متدين هذا الذي يدعوا لذبح أخيه وتفجيره وقتله وتهجيره ، بأس ما في هذه الدعوات الهمجية وما أقربها لأنظمة الحيوان وسلوك الغابة .

علينا أيها الأفاضل أن ننتبه إلى الجمعي الذي يمثلنا ، و أن نجعل من الاختلافات الفكرية الدينية بقسميها التي أشرت لهما مسبقا : (الطقوس التعبدية المنصوص عليها والطقوس الولائية غير المنصوص عليها) ، علينا أن نجعل منها خصوصية تمثل الفرد ، وان نمنح هذا الفرد الحرية في التعبير عن معتقداته ، والحرية في ممارستها ، وان نتخلى عن بث السموم وفكرة الملاحقات والتصيد بغية الإطاحة بالآخر ، وان نلتزم الاعتدال في كل ممارساتنا الفكرية والسلوكية لما يتعلق بالجماعات الأخرى وطقوسها المقدسة.

في كثير من الأحيان ما نسمع من مثقف أو مفكر أو مسؤول أو صاحب قرار أو سلطة أو حاكم أو ملك أو أمير ، انتقادات تحط من قيمة الطقس الجمعي الذي يمثل هذه الجماعة أو تلك ، بينما على هذه الشخصيات أن تتوخى الحذر في إشاعة ما يفرق وحدة الصفوف وما أحوجنا اليوم لهذه الوحدة ، والعجيب أن بعضهم يتبجح بهذه الأفعال وقد فتحت له وسائل الإعلام ليقذف هذا أو ذاك بما يعكس همجيته واستحواذه وتغطرسه وطغيانه ، والأعجب أن من يقف وراء هذه الشخصيات دول إسلامية كبيرة ، ومؤثرة ، وللأسف أصبح الصراع الديني هو الغالب على الصراعات الأخرى ، وتسخرّ لتفعيل هذا الصراع كل الوسائل والإمكانيات الأخرى للحيلولة دون احترام ذلك المبدأ (وجعلناكم امة واحدة) ، حتى أصبحنا اليوم نخشى المرور في هذا الزقاق أو ذاك ، ونخشى المرور في هذه المدينة أو تلك ، ونخشى المرور في هذه الدولة أو تلك ، لما فينا من تطرف جماعي وفكر ابعد ما يكون عن الفكر التنويري الإسلامي ، نحن وبصراحة أقولها امة منغلقة لا تعرف عن الانفتاح أي شيء ، وهذا انعكس على ما فينا من تحضر ، ولا يقول لي احد بأن الأمة الآن متحضرة قياسا لما فيها من جامعات ومدارس ومؤسسات وغير ذلك ، بل لنجعل من وسائل الدمار التي نعدها للآخر من : سيوف وسكاكين وعبوات وقنابل ومفخخات وأسلحة وصواريخ ومعدات مدمرة و ... ) هي المعيار في كشفنا للتحضر الراهن ، لنكشف ما فينا من جهل بل وجهل مركب.

واختتم قولي بالاعتذار لكل الجماعات والطوائف والمذاهب والشخصيات التي ترى في وجودها أنها تمثل توجها فكريا يسعى لكشف الحقيقة .

كما أتقدم لكل الأرواح التي غادرت الحياة رغما عنها ، ظلما وجورا ، بالدعاء لهم أجمعين ، وان يحشروا مع الشهداء والصالحين ، وآخر ما افعله هو قراءة سورة الفاتحة المباركة. ودعائي للجميع بالسلامة والأمان.

احمد جمعة
بغداد
15 – 6 - 2012

الوجود .. مفهوم ونظرية وفكرة.


الوجود .. مفهوم ونظرية وفكرة.

اختلف الفلاسفة في بيان حقيقة الوجود ومفهوم الوجود. وهل هو من قبيل المشتركات المعنوية أم اللفظية. إلا أنهم اتحدوا في كونه من المفاهيم البديهية ولهم في ذلك دليلان:

انه معرف ولاشيء أوضحُ وأجلى منه.
لا جنس له ولا فصل ولا خاصة.

لذا وقعت أبحاثهم حول الوجود بما هو(مفهوم) مجرد عن القيد والتشخيص، بما له من خصوصية الحمل، فهو يحمل على كل ما عداه؛ الأمر الذي أدى لوقوع الخلاف بينهم مجددا حول مسالة أصالة الماهية و أصالة الوجود. ومن هو منشأ الآثار الواقعية في(النار) مثلا، هل هو الوجود أم الماهية، ولهم في ذلك تفصيل يطول ذكره لذا سأتركه مشيرا إليه في المطولات[1].

لكني أود هنا أن أبين معنى بعض الاصطلاحات التي ستعين على فهم المطلب حتما ، منها ما يعبر عنه في الكتب الفلسفية بـ(الماهية) ، هذا الاصطلاح الذي يقابل اصطلاح (الوجود) ، وهي في معناها الأبسط تعني : الموجود الخارجي ، كالانسان والحيوان وغير ذلك ، فهذه الموجودات كلها ماهيات ، أي واقعة في جواب ما هو ، ومن هنا جاء لفظ الهوية واشتغالها الذي نتداوله اليوم ، كما يعبر عن ذلك أهل المنطق. وهناك اصطلاح اخر في المقام يتداوله الفكر الفلسفي وهو (الجوهر) ، وهو جنس الاجناس الذي يجمع كل ماتحته ولا شيء فوقه ، و هو بتعبير أخر الموجود الخارجي لكن وجوده لا في موضوع كـ(احمد) المتعين مثلا ، ومفهوم الجوهر هنا هو ما يقابل (العرض) : وهو الموجود في موضوع ، كزرقة لون عين (احمد) مثلا . وهنا أصبحت لدينا مفاهيم أربعة وهي (الوجود) (الماهية) (الجوهر) (العرض). ومطلبنا متعلق بالمفهوم الاول.

ترى ما الذي جعل من مفهوم الوجود مفهوما يتسيد المفاهيم الاخرى في البحث الفلسفي ، هل لانه مما يتعلق به وجود الذات ، ام لان معرفته تعني انها معرفة ماهية الذات بنحو او بأخر ، ام لان فكرة الوجود تشير الى العلة في فعل الإيجاد ، ام لانها تشير الى فكرة المعلول ، وغير ذلك من الأسباب التي جعلت من الفلاسفة أن يفردوا للـ(وجود) مباحثه الخاصة في كتبهم ، تلك التي تعرف في معاجم الفلسفة بـ(الانطولوجيا) ، وتعريفها هو : " العلم الذي يكون موضوعه الوجود المحض، أو الموجود المشخص وماهيته، أو الموجود من حيث هو موجود، أو الموجود في ذاته مستقلا عن أحواله وظواهره". [2]  

وعلى الرغم من ملاحظاتي حول هذا التعرف ، لإهماله أطراف دائرة الوجود الستة ، واشتماله على أربعة منه ، إلا انه ليس مرادي الآن مناقشة هذا التعريف المنقوص للانطولوجيا ، بقدر ما ابغي بيان مفهوم الوجود الفلسفي. كما أن تناول هذا المفهوم لا بد وان يعرف الإخوة بأنه دائر في المعقولات الثانية او التي يصطلح عليها بالثانيانية ؛ لانكم حتما تعرفون بأن المعقولات المفاهيمية قد قسمها الفلاسفة الى قسمين ، وهما (المعقولات الأولى) و(المعقولات الثانية) ، المعقولات الأولى: هي التي تتناول المفاهيم وتحملها على المصاديق ، كالناطق والضاحك وغير ذلك مما يصح حمله على الجواهر أو الماهيات أو الموجودات . و المعقولات الثانية: التي لا تحمل على مصداق في الخارج فلا نقول زيد نوع أو خاصة أو عرض و إنما إنسان.[3]

كما انه تجدر الإشارة هنا إلى مباحث الفلسفة الثلاث ، التي يتفق عليها مجمل المفكرين المعاصرين وهي :

التفكر في نظرية الوجود (الانطولوجيا) Ontology 
التفكر في نظرية المعرفة (الابستومولوجيا) Epistemology 
التفكر في نظرية القيم (الاكسيولوجيا) Axiology



نظرية الوجود: Ontology 

(الوجود) مفهوم من جملة المفاهيم التي لحق بها الغموض، على الرغم من سعة الدراسات التي أجريت عليه، كالدراسات الفكرية الموسعة بين أوساط الفلاسفة تحديدا، إلا انه مما يلزم أن نفصله نظرا لما لمسناه من خلط ولبس في العديد من المقالات والدراسات الحديثة ، ولا اعرف لما يتداولون ما لا يعرفون ، كما أننا نجد بأن مهمة أي متخصص اليوم هي تحديد المفاهيم ، فما بالك وواقع الحال يشير إلى إرباك معرفي في ذات الأطروحات التي يدلي بها بعض المتخصصين ، واستطيع أن أشير إلى ذلك في الكثير من الموارد ، إلا أن الحياء العلمي هو ما يمنعني عن القيام بمثل هذه الأفعال . وعلى أية حال فان هذه المسألة العقلية المرتبطة بـ(الوجود) وان بدت من البساطة عند آخرين، إلا أنها تشكل القوام المعرفي لأهميتها، لا من حيث كونها مسالة تتمايز بها الماهيات ، وإنما من حيث كونها مسألة تعكزت عليها المعرفة ذاتها ؛ لأنها تمثل الحدود العقلية فيها.

ذات مرة سألت السؤال الأتي : هل يعني الوجود في مطلب الفلاسفة هذا الذي يمثل وجودهم ، او وجودي (انا) ، الوجود المرحلي المتعلق بأفراد معينين ، ام هو يعني الوجود (الكلي) ذلك الذي يشمل كل وجود مرحلي ، بنحو الحقيقة والتصور على حد سواء ، فيكون الوجود هو ما به تنتقل الموجودات من حيز العدم أو اللاشيء إلى الحيز الذي يمكن لنا أن نراه فاعلا فيه وان كان ساكنا كالجمادات ، لذا فأننا بواقع الحال قد نميل في الأفكار مع ما طرحه الفلاسفة الإسلاميين ، إذ أشاروا إلى عدة مراتب للوجود، من خلال المغايرة في الاعتبار، أو من خلال المغايرة في لحاض الشيء مع وجود الاعتبار. وقد يروق لنا ذكر هذه المراتب ، فأولا أشاروا إلى(الوجود الحقيقي) والذي لا يمكن إدراكه إلا عن طريق الحواس وهو ما يمثل دائرة العياني او المشاهد او هو ما يقع تحت سلسلة الجوهر من أجناس ، والى وجود آخر سمي بـ(الوجود الاعتباري) ، وهو يشمل المفاهيم التي تنعكس من الوجود الأول عن طريق التعقل .

غير اني اقسم الموجودات بحسب الاشتغال الفلسفي إلى ثلاثة أنواع مفاهيمية كلية وهي :

الأول منها،  المفهوم الكلي الذي ليس له إلا مصداق واحد فقط . كالخالق تعالى.
الثاني منها، المفهوم الكلي الذي ليس له ولا مصداق واحد . كالعدم .
الثالث منها، المفهوم الكلي الذي له مصاديق متعددة وهو ينقسم في المقام إلى قسمين : ما يمثل المفاهيم (الاعتبارية) ، كمفهوم الشجاعة والكرم وغيرها.
و ما يمثل المفاهيم (الاصطلاحية) المنطقية والفلسفية والعلمية.

أو لنقل أنها تقع في دوائر ثلاث وهي دائرة الوجوب والإمكان والعدم.

وبالجملة يمكن أن يقال الآتي: إن لكل شيء في الوجود خصائص، ومن خصائص الوجود أن تكون له مراتب عقلية ، أي يتم الوصول إليها عن طريق التفكير، و أولى هذه المراتب هي مرتبة (الوجود الحقيقي) الفعلي الخارجي . هذا الوجود الذي نعنيه في هذه المرتبة يكون مخصصا بالشيء المحسوس أو المدرك لكن ليس بالضرورة أن يتصف بالجسمية أو يتصف بقيد المرئي ، إما لفنائه أو لكونه مغيبا عن الأنظار أصلا ، لا لعلة فيه وانما لعلة في وجودنا نحن كبشر. وفي هذه الحالة يكون(الوجود الحقيقي) متصفا بعده من الصفات، فمثلا يجب أن يكون محدودا بالزمكان، وان يكون في جملة الأمور التي (قد أدركت) ، و إلا فقبل إدراكها لا تكون الأشياء في حيز(الحقيقة)، ومن الوجود الذي نحن في مرتبته، و إنما هي مجهولات تصورية ، وجودها في هذه الحالة إنما هو وجود ذهني وهذه مرتبة لاحقة للوجود الحقيقي ، وهي التالي في تعدد المراتب .

والأمور(المدركات)، هي إما أمور تعلق إدراكها على عين الشيء ونفسه ، وإما تعلق إدراكها لا على نفسها بل على غيرها من الأشياء ، وهي بذلك أمور مدركة إما عن طريق وجودها الحسي مباشرة ، أو عن طريق غير وجودها الحسي المباشر، وهي -أي الأمور المدركة- إما أن يتوصل الإنسان إليها عن طريق الكـسب أو النظر ، أو عن طريق اختصه (الله) تعالى لعبادٍ له مقربـون سلكـوا منهجا لهم للوصـول إليه سبحانه ، فـعرفهم من الأمور (المدركة) ما لم يعرفه لغيرهم ، وهناك تقسيم اخر عند الفلاسفة و هو قسمتهم المعروفة في ادراك هذا الوجود الى معرفة حسية واخرى عقلية ، وذلك لان الشيء إما أن يكون مدركا عن طريق نفسه، أو مدركا عن طريق أخر، وما يدرك عن طريق نفسه هو ما يمكن للعين أن تراه ، وعكسه هو ما يتوصل الإنسان إليه عن طريق الكسب والنظر أو عن طريق الإلهام أو الوحي ، وان كان طريق الكسب تختص به كلا المعرفتين على حد سواء بحسب ما اتصوره . وبهذا تكون المدركات جميعها موصوفة بوجود الزمان أو المكان ولا يخفى تعلق الأول بالثاني .

إذن (فالوجود الحقيقي) للأشياء جميعها سواء أكان لها جسم وصورة مرئية أم لم يكن لها جسم وصورة مرئية، أو هي (ذات) وليس لها جسم وصورة، ولا هي مرئية، كذلك يكون وجودها متعلقا بالوجود الحقيقي.

ولذا فإن " القول الصحيح هو ما ارتضاه أكثر الفلاسفة المسلمين وأصحاب الاتجاه العقلي وهو أن للإنسان قوة إدراك خاصة تسمى العقل، وعملها إدراك المفاهيم الذهنية الكلية ، سواء أكانت المفاهيم التي لها مصداق حسي أم سائر المفاهيم الكلية التي ليس لها مصداق حسي "[4]، ومن خلال ما تقدم نجد أن المعرفة الحسية تتعامل مع الأجزاء ومدارها هو المفهوم الجزئي ، لتعلق الأمر بالمصاديق. وان المعرفة العقلية تتعامل مع المفاهيم المجردة. الكلية. ونجد أن الوجود الحقيقي هو الذي يجمع الموجودات جميعها سواء أكانت مادية أم غير مادية، حسية أم عقلية، مرئية أم لا.


 ========
[1]ينظر: 1. السيد محمد حسن الطباطبائي، بداية الحكمة، مصدر سابق، ص 5-21. / 2. الشيخ مرتضى مطهري، شرح المنظومة، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، لبنان – بيروت، 2000، ص 19-65./   3. السيد كمال الحيدري، دروس في الحكمة المتعالية، الجزء الأول، ط2، دار فراقد، سنة 1424 هـ، ص 156-236.

[2]ينظر: د. عبد المنعم ألحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 2000، ص 124، وهو يذكر أن (الانطولوجية):(ontologism) مذهب للفيلسوف الايطالي (جيوبرتي) (1851م)، و الانطولوجية الواقعية تعود إلى (نيقولا هارتمان) (1882 – 1950 م )، وهنا يجد الباحث ثمة مفارقة عظيمة سنحاول أن نقف عندها وهي تتعلق بموضوع هذا العلم (الانطولوجيا) أي (الوجود) : الذي لا يحتاج إلى تعريف لأنه بديهي التصور، وما كان كذلك كيف جاز أن يكون موضوعا (انطولوجيا)، ونحن نعلم أن بنية المعرفة أساسا أقيمت على كشف المجاهيل أو غير المعرفات، فما الحاجة في البحث عن ماهية الوجود، وهي لا تحتاج إلى إثبات ؟ وباتفاق عام عند الفلاسفة.

[3]ينظر في ذلك : ابن سينا، كتاب التعليقات، تحقيق حسن مجيد العبيدي، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص43.

[4]السيد محمد تقي مصباح اليزدي، المنهج الجديد في تعلم الفلسفة، مصدر سابق، ص 195.