بحث في هذه المدونة

الخميس، 13 يونيو 2013

سكسيولوجيا الجسد، حفر أركيولوجي للمفهوم


سكسيولوجيا الجسد، حفر أركيولوجي للمفهوم 
الجنسانية (Sexuality) أحد المفاهيم التي لا تقل أهمية عن مفاهيم أخرى في الخطاب الجسدي؛ ليس لأنه كمفهوم يقوم بعملية التحديد البيولوجي الذي يشطر مفهوم الجسد إلى شطرين متمايزين:(ذكر- أنثى)، وإنما لأنه في منظومة الخطاب ذاتها محاط بإشكاليات كثيرة، يحتاج واقعها الفعلي الثبوت إلى مزيد من الإمعان والنظر، خاصة وان هذا الواقع الفعلي في جنسانية الجسد قد جاء بشكل بعدي ولاحق لذلك الذي وصفه القرآن الكريم بـ(أحسن تقويم)، على الرغم من قابلية تحقق الجنسانية في الجسد الآدمي، أمر سابق في كينونة الذات وقدراتها القووية الكامنة فيها، وكأن إعلان الجنسانية في الأجساد جاء بانتقالته من القوة إلى الفعل.

إذ دفع هذا الإعلان الإجهاري المحدد بالجنسانية للنظر إلى الجسد نظرة أخرى، غير تلك التي يراد منها النظر لجهته الانطولوجية التي تمثل(البقاء) فقط، وإنما أصبح الجسد ومنذ هذه اللحظة جسداً يمتلك آلة الإنتاج، وبشكل رمزي تم تفعيل البعد الزمكاني كذلك، ليخضع الجسد إلى آلة الاستهلاك. منذ اللحظة ذاتها تلك التي قال فيها تعالى جل وعلى (اهبطا منها)[1]، لتبدأ وبشكل متوالي خلافة الجسداني إلى حين انتهائها.

وهذا يعني ان الحد الفاصل في عملية التصنيف الجنوسوي وبإعانة تقريرات البحث الانلوطيقي الدلائلي قد تتعدد الى مستويين او ظاهرتين بديهيتين : الاولى منهما تشير الى المفهوم الذكوري، والثانية تشير الى المفهوم الانوثوي، لكن وعلى الرغم من ذلك بقي الكشف الماهوي في الأدلة الانلوطيقية ذاتها جامعاً لهذا التمييز الجنوسوي بين كليهما، لأن الماهية تنظر الى النوع بما هو نوع انساني، لذا فالانسانية في بنية الخطاب الجسدي أرفع من الجنسانية؛ لرمزية الاولى البلاغية وتشفيرها الكلي في منظومة الخطاب الجسدي الذي يشير الى حق التساوي بشكل كامل وجمعي. إذ لا تمايز هنا في حق الانسانية كمبدأ ماهوي انلوطيقي، ولديموغرافية الثانية التي تنظر الى ترسيم خارطة الجسد وتشطر حد التساوي الى شطرين، حتى اصبحت هذه الاشارات الثنائية بما هي وقائع انطولوجية تشكل محورا في منظومة الخطاب الكلي بغض النظر عن خصوصية الخطاب الجسدي فيه، فبات اعم ما في الوجود من ظواهر ممتنع الانفكاك عن هذه الثنائية، حتى قيل وفي طروحات فلسفية لا يمكن اغفالها ان الثائية مبدأ قام عليه الوجود بالجملة. غير ان تأكيد قيام الخطاب (الجسدي - الجنساني) عليها امر مفروغ منه؛ ليس لانه واقع في قبال العياني الظواهري(الفينومينولوجي)، وانما هو مفروغ منه؛ لانه يشكل فطرة الخطاب ذاته، تلك الفطرة التي فطرت عليها الاجساد، بغية تحقق مبدأ الانتاج فيها، على شاكلة من التكرارات المتوالية. سواء اكان هذا الانتاج (التوالد) للاجساد مرتبط بجسدانية (الانسان) ام بغيرها. اذن فالتمايز المورفولوجي لخريطة الجسد في تقسيماته الديموغرافية، ذات الطابع التمييزي اساسا: هو الامر الذي سيقع عليه اهتمام الخطاب الجنساني، على الرغم من فاعلية التقسيمات الانلوطيقية في توضيح المسألة، اذ لا يخفى حضور الاعضاء كعلامات (بايوجنسانية) تكوينية، التي سترسم ملامح الخطاب (الجنوسوي)؛ لانها حضور لازم غير مفارق للموجود الجسدي، وفي الحال سيحدد هذا اللزوم سمة التمييز (التفريق) بين (انتَ) او(انتِ) في اشتغالات فكرية عامة. بل سينمو على هذه الافكار وسماتها نوع من التقسيم الاممي في المجتمعات وعبر ادوار حضارية بين جماعات (ذكورية) واخرى (انوثوية).

اذن فالارتباط الفعلي بفينومينولوجيا الاعضاء الجسدية بين (البارز) او الناتئ، وبين (المضمر) أو الغائر، هو الذي يفسر اهتمام العديد من الدراسات كالطبية والدينية والفيزيقية وحتى الميثولوجية والفنية الجمالية وغير ذلك؛ بغية الإحاطة بهذه الظاهرة من جوانب مختلفة. فالجنسانية فضلا عن كونها مفهوماً لاحقاً للجسد – كما تبين – إلا انها تكاد تحتل الصدارة في خط (القبلي والبعدي) على حد سواء. لست بذلك انوي تبديل المقولات او حتى خلطها بل على العكس؛ فـ(الجسداني – الجنساني): الجسد الجنسوي، اخذا يعنيان مفهوماً واحداً لارتباطهما ارتباطاً انطولوجياً بدعوى فطرة الاجساد. ولا اصالة تدعو لتمييز مفهوم الجسدي عن مفهوم الجسد الجنسوي، عدا ان الاول اسبق في حضوره داخل اشتغالات الخطاب فضلا عن كون ادراكه لا يحتاج الى وساطة الحواس، لانه من اولى المدركات الحضورية، بينما يحتاج الجنوسوي كمفهوم الى وساطتها، لانه من معطيات التحصيل والكسب، غير ان التفاوت في حضور الجسدي وغياب الجنوسوي لا يتعدى بضع سنوات ليطرح (انتَ) اسئلته عن الاختلاف العضوي والشكلي الموجود لدى (انتِ) والعكس بالعكس، وبطبيعة الحال فان البحث عن اجابات تخص الذات، يعني الوقوف على معنى (أنا) بشكل يحقق في ما بعد الدور والوظيفة التي يفرضها علينا الخطاب بوصفه سلطة. وإن كان عن طريق التسمية التي امتلكت جنيولوجا الحضور، على الرغم من نفوذ البعد الايهامي في توجه القصد نحو المسمى، خاصة في ما لو علمنا ان النظام الاستراتيجي في التسمية لم يكن فاعلا (ربما) حتى قدوم ذلك الذي (عُلِمَ الأسماء كلها). حتى أصبح (انتَ: آدم) و(انتِ: حواء).

وعلى اية حال فقد اتاح هذا الحضور والغياب المتفاوت للسؤال ان يبدو في نظام الخطاب ذاته مفتاحاً لتحديد الهوية الذاتية، او على الاقل هو دعوة لرسم الملامح الاولى لمحدد الـ(انا) من جهة جنوسوية. التساؤول يعني تحفيزاً للكينونة ان تكون بما هي عليه، لان الاجابة هنا لا تعني كشفاً لنتيجة اخرى، انما هي تقرير لعضوية لزومية، ليس للـ(انا) شأن في وجودها من عدمه، كما ليس له الحق في ان يختار ما يناسب الكينونة ان تكون (انتَ)ام (انتِ) – هذا بحسب مقولات تلك الفطرة الجسدية. اما اليوم وبفضل التسارع التقني والعلوم البايوطبية فللكينونة ان تختار ما تشاء - انه الانغلاق الاكثر فاعلية في خطاب الجنسانية الذي يحدد الذات بكشفها لهويتها، من دون تداخل في المعطيات بين السؤال والاجابة اللاتي اثارهما التأكيد العضوي في خريطة الجسد. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن الجنسانية في الخطاب الجسدي هي في حد ذاتها بمثابة زائر يحتفى به منذ قدومه حتى رحيله، انه الزائر الذي ينمو ويكبر في بناية الجسد، وينتقل بـ(الذات) من تساؤلاتها تلك، الى افعالها التي تصبح اجابات على جسد(الاخر). الجنسانية من هنا تثير فينا الاهتمام، ليس لانها زائر فحسب، سيقوم بملأ فراغ تلك التصورات التي تركت خالية في الأسئلة بين قوسين ومساحة منقطة، وانما لانها تعني حضوري امام (الاخر) الذي يقابلني في تأكيد حضوره من خلالي. انه تداخل في معطيات اجابة الاسئلة بين (أنتَ): آدم، وبين (انتِ): حواء، او لنقل أن الخطاب الجسدي أصبح يمثل الـ(انا)، لكل واحد منا في خطاب اخر فعله زائر شكل الكثير من اهتمامنا اطلقنا عليه مصطلح الجنسانية. انه تأكيد للجسدي بين التصور الذهني للفعل، وبين صورة الجسد المنفعلة، او هو إعادة ترسيم لذلك التمايز المورفولوجي وقراءة الجسد قراءة جديدة، تفعل فيها انظمة الشخصنة واهتمامات (الذات) للبدء في رحلة الكشف من أي منطقة ديموغرافية تشاء، وصولا لتلك المناطق التي اثارت حفيظة السؤال. انه تفعيل لا يستدعي انظمة البلاغة ولا يرتبط بالافتراض ولا الإيهام، انما هو اشتغال حقيقي وتطبيق فعلي لخطاب الجسد، إلا انه ومنذ القدم، كان وما يزال من أكثرها خصوصية وقدسية، فمحل القراءة لا يتم إلا بعد إحكام إغلاق كل منافذ التطفل او استراق النظر، وهذا طبعا واحد من تعاليم تلك القائمة الطويلة التي يفرضها الخطاب الكلي بوصفه سلطة. فضلا عن توصيات انظمة خطابية اخرى كالخطاب الديني الثيولوجي والخطاب الاخلاقي والعرفي الاجتماعي وغير ذلك.

في التاكيد على الظاهرة الجسدية التي لاتمثل إلا جسدي (انا)، وبحالة من الاعمام الشامل لكل الاجساد الاخرى، التي لا تمثل اجسادها إلا (أنواتها)، سنقف على نوع من الحدود الكفافية وحصر شكلي وصوري لكل موجود جسداني وبشكل منعزل عن الاجساد الاخرى، ولايمكن ان يكون هناك تداخل في كفافية الحدود الخارجية للأجساد إلا بعد تفعيل آليات اشتغال (الجنسانية)، لان التواصل الجسدي في مقولة حث الجسد على انتاج ذاته مرة اخرى بشكل (ولادي) لا شك بانه متوقف على حدوث التداخل بين الجسدين(انتَ - انتِ) – هذا لمعظم الكائنات الحية – بمعنى ان التواصل (السكسيولوجي: الجنساني)، بغض النظر عن مفهوم الاستمتاع ومفهوم اللذة يخلق نوعا من التوحد الجسدي المؤقت. غير اننا " لا نشتهي الاخر، لذاتنا نحن انفسنا، وانما نحن نشتهي الاخر ذاته "[2]، أي الوحدة بين ذات (انتَ) و (انتِ)، و إلا فالتوجه الجسدي بمعزل عن وحدة الذات وإن كان بمستوى القبول والايجاب سوف لن يكون عدى إرتباط جنساني لأجل الجنسانية كعملية آلية مفرغة. " إن الحضور القصدي هو، بوجه اساسي، حركة من الذات نحو طرف معّين لإقامة إتصال به، ومن ثم لإقامة تواصل معه. وهذه الحركة قائمة في صميم الذات، لان الذات لا تسكن في ذاتها، مستقلة ومنعزلة عن غيرها بصورة مطلقة"[3]، الامر الذي يفرق بين جنسانية الجسد المتصف بـ(الانسانية) عن غيره من الاجساد الاخرى، وان كان هذا التمييز على مستوى الجنسانية الان، لانها مدار البحث، والا فالانسانية لها ما يميزها عن بقية الاجساد الحية بشكل لا يكاد حصره.

إذن فمجرد الاختلاف الظواهري في صورة الجسد ومحيطه الكفافي الذي يخصه، يعني ادراك أو تشخيص جنساني، وأن هذا الادراك يدعو الى تحقق الاتصال بين الذات والذات الأخرى، بغية الشعور بما يحقق الكينونة، لأن الذات في دور مقابلة الذات يعني اكتشاف كل منهما في الأخر، انها عملية ثنائية في مستوى الرؤية، وفي مستوى الفعل، بل وفي مستوى الأداء الجنساني كذالك، فالذات" تعيش الحضور القصدي كوضع كياني لها، وفي هذا الوضع، تختبر حقيقة أختلافها عن الغير واختلاف الغير عنها ووظيفة الأتصال بالغير من حيث أنهُ يكشف حاجتها الكيانية الى التعرف الى نفسها عن طريق ملاقاة ما ليس هي وما ليست هو"[4].

ألم أقل في بداية الحوار أنهُ تأكيد للجسدي بين التصور الذهني للفعل وبين صورة الجسد المنفعلة. ذلك التأكيد الذي أثار فينا السؤال، أنما سؤالنا عن الظاهرة العضوية البايولوجية التي تحقق الاختلاف في حدود فينومينولوجية(ظواهرية)، سؤالنا عن معنى وجود هذا الاختلاف المورفولوجي في خريطة الجسد الديموغرافي بين كل من(هو: أنتَ) و(هي: أنتِ)، سؤالنا عن الثنائية في أصلها الفلسفي، ذاك الذي لولاه لما تحققت أنطولوجيا الفعل المتكرر في أنتاج الجسد منذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها أنهُ كجسد يحمل بين ثناياه خصاصة الخطاب الجنساني. والغريب في المسألة هنا: أن خطاب الجسد بما هو جسد بمعزل عن الجنسانية لم يستطع أغفال (الأخر) أو التغاضي عنه او عن وجوده الذي يعني وجودهُ (هو)، وقد قلنا ان مسالة اثبات وجودي بمعزل عن الاخر امر عسير في الحضور الانطولوجي للفكرة. وان خطاب الجسد بما هو جسد جنساني كذلك احتيج الى حضور(الاخر) في ذات الاثبات الانطولوجي للفكرة كذلك. انه تاكيد على الخارجي والداخلي، في أنظمة الخطاب الشكلي او الصورة الجسدية، التي تميز(انا) عن (انا) الاخر، وفي الوقت ذاته يكوون التاكيد على كل منهما، ففي التواصل الجسدي يعني تواصلي في الحضور والا فانقطاعي ان لم يكن مؤشر للعدم فهو مؤشر للغياب، اذن فالاخر بما يعني انه انا هو الذي يشكل عنصر الاهمية حتى الان، لانه كـ(اخر)، " إما ان يكون جسدا بالنسبة لي بحيث يكون موضوعا للرؤية واللمس..الخ، او ان اصبح جسدا بالنسبة له واشعر بنفسي موضوعا له"[5]. انه لا يعدو اكثر من تبادل الادوار بين تلك الاختلافات التي من اجلها إنما أصبحت الجنسانية جنسانية، وان ادراكها الذي حققها الاختلاف الشكلي، ذلك الادراك الاول لاشك بان الانسانية مدينة له. لانه ادراك لم يأت بالاستناد الى خبرات الاخرين وانما هو اكتشاف قبلي لكل خبرات الاخرين انفسهم.

وفي عودة الى حضور الجسدي الجنساني في انظمة الخطاب المتداخل بين ما يحقق الاختلاط او التجاذب المحقق للذة ولديمومة الجسدي ذاته، يكاد وعي الخطاب بما هو وعي كلي، يشير الى مجموعة من التساؤلات، ترتبط بالجسداني من جهة وترتبط بالجنساني من جهة اخرى، ونحن نعلم علم اليقين بان الارتباط العضوي بين الطبيعة بما هي مواد مختلفة وبين الجسد بما هو طبيعة عضوية متحقق بنمو يثير فينا الاستغراب، إلا ان هذا الاستغراب قد دفع بنا على حد قول(جون ماكوري) في كتابه الوجودية ان ننظر الى اجسادنا التي تتميز بجانب كبير من التعقيد العضوي، نظرة تشريحية او فسيولوجية[6]، اذ ستتيح هذه النظرة ان نتعامل مع الاجساد على اساس انها مواد بحثية قابلة للدراسة من هذه الجهة، لكن ما الذي يميز جسدي(انا) عن جسد غيري بوصف اخر غير ذلك التوصيف الذي ارتبط بالمادة العضوية الحية، بمعنى اخر ثمة تساؤلات عن معنى (انا) في جسدي المتداخل بالوقت نفسه عن معنى(جسدي) في(انا)، وهذا هو غير سؤال(جون ماكوري) عندما سأل:" أي التعبيرين اكثر دقة: أن أقول(انني امتلك جسدا) او ان اقول(انني جسد)؟ "[7]، لان مجرد لمسي انا لجسدي اشعر وعلى الفور باني ملموس، باني موضوعي في الادراك. وحينها سأقر باني امتلك جسدا فيزيقيا خارجيا، واني بمجرد ما ان اكون موضوعا ادراكيا لغيري ساشعر وعلى الفور كذلك باني (جسد)، وان كانت هذه التساؤلات تحتوي على ابعاد توضح اهمية العلاقة الغيرية بيني وبين الاخر، واهمية حضور ادراكي في الجسدي الخاص بي المختلف عن ادراكي للجسدي الخاص بغيري المرتبط بالحصول، الا انها لا تكشف لنا عن(الجسداني والجنساني) في وعي الخطاب ذاته، بقدر ما تكشف لنا اهمية الجسد كمحور انلوطيقي(معرفي)، وهنا اود التمسك بابعاد اخرى غير تلك التي أكون فيها إما موضوعا فسيولوجيا او بايولوجيا، وإما موضوعيا ادراكيا انلوطيقيا من جهة ابستمولوجية، خاصة وانه قد ثبت في ما سبق بان وعي الخطاب يستلزم حضور(الاخر) بما هو شريك في(الجسداني) كنظام خطابي و(بالجنساني) كذلك: وهو البعد الجسدي الجنساني(المؤنسن) الذي يميزنا انا والاخر على حد سواء؛ لان فعل(الانسنة) على خطاب الجنسانية يكاد يكون من المسائل المفروغ منها، خاصة ونحن نعلم بان الكائن البشري هو كائن ثنائي بطبعه وقد خلق ليعيش في خلية ثنائية ضمن علاقة تتيح له ان يؤمن خلفا وان يقصي حياته مع شريك بمعنى ان الفعل الجنساني في الجسدي هو فعل(طبعي)، اي مما طبع عليه الجسد بان يكون جسدا له وظيفة الجنسانية، وحسب تعبير ميشيل فوكو" وكأن الطبيعة هي التي تحث الافراد على الزواج وتدفعهم اليه دفعا "[8].

اذن فالخطاب الجسدي -الجنساني، بما فيه من خصاصة الاعضاء الجنوسوية، ليس هو من قبيل ما يبدو عارضا عن الجسد، وانما هو ذاتياته التي ترتبط بتلك الفطرة التي فطر عليها الجسد، الا ان تعامل الانسان مع هذه الخصاصة دفعه الى تاسيس وعي بها، اذ نقلها من حدود المشاعة الجماعية، كما في العصور البدائية، الى حدود الانضباط المدني، او لنقل ان التحول في الوعي الجنساني اخذ بالانتقال من محاكاة الظاهرة الجنسانية في سلوكها الطبيعي الغابوي الى تاسيس سلوك جنساني ملتزم يمثل ابعاد(الانسنة) في صورة اعراف وتقاليد وقوانين. " ان التحول في النموذج الجمالي يدل على الاشتغال المستمر للثقافي على الطبيعة، وهو يشكل ايضا فعل الجسد المثال على الجسد الواقعي. بحيث يتحول الجسد بفعل هزات وتبادلات عنيفة كي يتلائم مع الصورة العرفية المتواضع عليها. بهذا المعنى يكون التركيز على الاعتدال نوعا من مداورة المصير البيولوجي للجسد وتحويله الى اداة رمزية خاضعة اكثر فاكثر لقرار الجماعة البشرية في تحديد الجميل والمشتهى والمقبول " [9] انه نوع من تاكيد سلطة الكبت الجماعي على الدور الجنساني في الجسد، على الرغم من كونه طبع من طباعه الذاتية. وعلى حد تعبير (نيتشه) في جانب اخر من عرض الحوار، بانه نوع من انواع اختراع (الضمير)[10]، او لنقل بان ما يقلق الانسان من خطر غريزي مرتبط بالفعل الجنوسوي هو الذي دفعه للبحث عن مؤسسة الضمير اذ " لا مراء بان هذا التحول ليس نتاجا ضروريا لهذه التحويرات الاجتماعية بقدر ما هو مؤشر على صياغة وتشكيل استطيقا عيش جديدة "[11]، تنسجم وتطلعات المجموع بشكل يحقق انسنة الجنسني والكف من اندفاع الغريزي، هذا اذا ما وضعنا شدة الارتباط في ما بينهما بنظر الاعتبار؛ العلاقة الجنسية بالاساس هي علاقة جسدية مع (الاخر) ولا نحتاج الى عناء كثير لاثبات انها ليست ذات طابع عقلي، الامر الذي يجعل من تحصيلها مرتبطا " بالمتعة والشهوة والنموذج الجمالي "[12]، ان العلاقة الجسدية في ما لو اتيح لها الانفلات من سلطة الضمير لجعلت من الإنسان أن يبدو " حيوانا متعددا وافاكا ووهميا " [13] يحاول " تأسيس اللحظة الجنوسوية المرتقبة ولو على مستوى المتخيل " [14]، فضلا عن العنف والعدوان الجنوسوي الذي لا شك بأنه دفع كذلك الى وجود مفهوم انسنة الجنس[15]. اذا ما حسبنا فعلا ان " العدوانية تمثل استعدادا غريزيا بدائيا ومستقلا بذاته لدى الكائن البشري" [16] بحسب تعبير فرويد.

الجسداني بمعزل عن كل شيء مما يلحق به في انظمة الخطاب، انما هو باحث دأبه تحصيل لحالة السكون، تلك التي تبدو وكأنها قادمة من ترتيل مستمر لا نهاية له من (الإرواء) المؤقت. " او بعبارة نفسية تحليلية، ان العضوية هي قلق لانها بحاجة دائما لتستمر الى عضوية تغايرها "[17]، الجسداني بمثابة نضيدة طبعها فقد الطاقة وغايتها إعادة الشحن. أو لنقل انه يحث الذات وبشكل مستمر على تحصيل ما يجعله قابلا للنمو، بلغة الأخذ المتناوب على شكل أرواءات متقطعة؛ لأنه جسداني فقط ومرتبط بعضويته الطبيعية بشكل مباشر، ناهيك عن كونه بذاته محط النظر الغرائزي " إن الجسد هو حقا فروج، إذا ما نظرنا إليه من منظور اشتهائي. وموضع الغواية فيه ما يومض منه من وراء الحجاب. أو ما يسطح عبر شقوق، الرداء، وما ينشق وينفرج من الجسد نفسه " [18]؛ الأمر الذي يفسر ظهور تعدد تقنية الخطاب السلطوي الذي يحاول التقليل من هيمنة الجسداني ضمن اطر وصياغات متجددة ومواكبة لعصرنة الجسداني الجنوسوي حتى عبر حضوره في شاشات الحوسبة وكاميرا الويب (Web : كاميرا التواصل عبر الانترنت)، وحتى في اشد انتقالاته إبداعا وتوظيف البعد الجمالي فيه على شكل منجزات فنية، أخذت سلطة الرقيب تمارس السلطة فيه بدعوى (ضمان الجودة او فحص النصوص او الرقابة الاجتماعية)، وهنا لا يتعدى الأمر كونه عملية ترجيح لكفة العقل على كفة الجسد؛ حتى أُشرَ وفي مواضع كثيرة دونية الجسدي مقابل العقلي، وبقطع عرضي مقصود اسمحوا لي مناقشة هذه الفكرة:" ثمة فائض شهواني، متعي لذائذي، أوجده الإنسان وألحقه بالغريزة، ليمنح العقل قوة ردع "[19]، إلا أن الكاتب (إبراهيم محمود) هنا يميل إلى عدم استحقاق العقلي لهذه السلطة، بدعوى ان الغريزة ذاتها هي التي دشنت تاريخ الكائن الحي، ونظمت وجوده، ويميل كذلك الى ترك(الغريزة في تنوع مسمياتها: جوعا، عطشا، تعبا، جنسا... الخ تقوم بعملها، تروا نتائجها غير المتوقعة: المدهشة)[20]، وفي ذات الموضع يؤكد حيونة الانسان بشكل اخس من الحيواني ذاته بقوله: (هذا الكائن الحيواني: القرد العاري الداب على اثنتين، تعلم أكثر مما تعلم من سلفه الحيوان، وهاهو يصيغ الكثير من صفاته وخصائصه، وحتى سجاياه استنادا إلى معرفته للحيوان، فالغدر في العرقب، والمكر في الحية، والخبث في الذئب، والثقة بالذات في الأسد، والزهو في الطاوس، والتضحية في البجعة، والخيلاء في الحصان)، الخ..، والحق يقال انه مُغالٍ بواحدية النظر حتى في دفاعاته عن مطلبه؛ لان حجية وجود الغرائز من عدمها في الجسد لا تعني ابدا انها الجانب الحسن في الوجود الذي سيقود الموجود الى عوالم رقيه وسموه، والشاهد هو الحيوان محط المثال (القرد العاري) فلم لم نلحظ له تقدما او حتى نموا في انظمته الادراكية، صحيح انها كانت المحفز لاستمرار الجسدي في نظام من الولادة المتوالية، إلا ان العقلي دفع الانسان الى العفة والحياء في التعامل مع الغريزة، بل واخذ يؤسس لها خطابا شموليا لدراستها وتوظيفها لصالح الانسان ذاته. ان الوعي بالخطاب احال ما هو حيواني الى ماهو انساني اكثر، انه بمثابة تغليب للبلاغي على الطبيعي، خاصة وان مقصدية الشهوة تتحكم في صياغة هذا النموذج الخطابي البلاغي؛ لان" كل رغبة هي نوع من انواع العشق، وما من شيء يدعو الى المجازي والتصوري البلاغي اكثر من العشق والرغبة، حتى ان الاخيرة لها القدرة على تجرد الجسد من علاقاته لتتمكن من تملكه تخيلا وواقعا "[21]، لكن هذا لا يعني ابدا الاقلال من شأنية الحسي او الجسدي بما هو هو؛ وعلينا ان ندرك وبشكل شمولي ان كل ما للعقلي لا شك بانه قادم من عتبة الحسي.

اذن يمثل كل من (انا) بشكل فرداني، او (نحن) بشكل جمعي وجوه القدرة للسيطرة على ما يمثل اللذة او الشهوة ، والدليل هو الفحص التاريخاني لتمرحل الجنوسوي في ادوار للحد من هيمنته؛ لان الفارق يكاد يكون واضحا بين طفولة المجتمع البدائي القديم وبين ابوة المجتمع الحديث او حتى المعاصر، فـإن في " ارتكاز عمل السلطة وبث مفاعيلها ليس فقط من اجل استبعاد الانحرافات وحالات الشذوذ وإنما كذلك توفير الاسس التي تقوم عليها العلوم الجديدة. ان الاهتمامات الفكرية والاخلاقية للسلطة، التي تتجلى في الخضوع لفن من فنون ترشيد السلوك وإضفاء الطابع الجمالي على الحياة خصوصا في العلاقات الزوجية وما يتصل بها من تصورات خاصة بالمتعة واللذة، ترفع هكذا علاقة إلى مستوى القيمة العليا للحياة "[22]. لقد دفع الخطاب الجنساني من شدة ما يحتله من مكانة عليا ومهمة بالإنسان إلى التعامل مع الجنس بمزيد من التكتم والسرانية، لانه يمثل الذات بما هي ذات تنظر في مرايا من يقابلها حضورا منعكسا، اخذ البعد الجنسوي يحمل في ثناياه الكثير من خصاصة الرمزي لينتج انموذجه التاريخي المتكامل؛ " فبقدر ما يكون مغلقا ومجردا عن خصيصتة الواقعية بقدر ما ينغرس في المتخيل الاجتماعي ويؤثث فظاءاته الشهوية. ويقدر على التحكم في النشاط الجنسي ضمن العلاقات الاجتماعية "[23]،


====
[1] . بعد ان كان الجسداني الأسبق لنبي الله ادم عليه السلام يعيث في الأرض فسادا، كما تخبرنا بذلك نصوص الثيولوجيا والأدلة المادية كما سيأتي في محله عند دراسة (انثربولوجيا الجسد)، خلق الله تعالى ادم عليه السلام ليكون خليفة له قابلية التعلم والنطق، وفي ذات المسألة الجسدانية اخذ الموجود المخلوق من (نار) يفاضل بين الموجود المخلوق من (طين) باحثا عن أشرفية المواد ومراتب أصالتها، في جدل دفعه إليه الغرور، وكانت المحصلة أن يقوم بفعل الغواية إلى يوم يبعثون، وأول أفعال غوايته أن وسوس إليهما في الاقتراب إلى الشجرة، بإقناعهما بان الابتعاد عنها يعني حرمانكما بان تكونا من الملائكة أو تكونا خالدين، وهو بفعله هذا إنما أراد أن يطئا بقدميهما الطريق المؤدي إلى العدم. إذ صاحب هذا الاقتراب من الشجرة أمره تعالى: ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ) (طه:123) أي بين الموجود من (نار) وبين الموجود من (طين). هذه الإشكالية فتحت الباب لاحتساب الزمن بما هو (قبلي) وبما هو (بعدي)، ليقوم بعملية استهلاك الجسداني بكلا نوعيه، اذ قال الى يوم يبعثون، وهي في الوقت ذاته تشير الى حدوث الجنسانية في الجسد، هذا الموضوع المتخفي فيه، لينتقل هذا الحدوث من القوة إلى الفعل، والشاهد قوله تعالى: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما). وهي كإشكاليه تشير الى مطلب اخر في جنساني الجسد وهو: ان الله تعالى خلق ادم علية السلام من طين، كتمثال، ثم بعد ذلك خلق حواء من بعض ذلك التمثال، وهذا وان يعد تمييزا لأدم من دون حاء. الا ان التمييز الاكثر فاعلية في خطاب الجنسانية، هو نقطة الشروع الاولى، تلك التي من جرائها في الظهور اخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، انه الاعلان الاجهاري الاول، لبداية الخطاب الجنساني كما تترتب على هذا الامر مسالة اخرى رابعة تتعلق بـ(الازياء) او اللباس، ومنذ هذه اللحظة سينشأ في الخطاب الجسدي مفهوما جديدا وهو الجسد (المستور)، او المتجلبب، فكان ورق النبات هو اول لباس في هذا الكشف الجنساني، وقد حدث نتيجة لرد الفعل منهما ليخفيا ما كان اصلا متوار، وفي بعد رمزي لاشتغالات هذا الفعل ورد الفعل، يمكننا القول بأنهما ارادا اخفاء قبح الفعل ذاته؛ لان الجنسانية هنا : ما هي الا نتاج فعليهما، وبناءا على ذلك سيأخذ (الفعل ورده) دورا مهما في تراتبية (القبلي والبعدي) الجنساني، الامر الذي يفسر حلول الجسد في اقامته الجبرية داخل (الازياء) ومنذ تلك الفترة؛ ليس لانه فعل السنة فقط، وانما لان عملية الكشف الاجهاري لما هو متواري يشير بالفعل الى تلك (الخطيئة)، بل وهو من علائم التخلي عن الحكمة المتعقلة، هذا من جانب الثيولوجيا والتعاليم السماوية المقدسة، والا فهو من جوانب اعتقادية اخرى لايستلزم هذا التجلبب ابدا، غير ان الاخير، اخذ يشكل في خطاب الجسد ظاهرة لا يمكن اغفالها، لارتباطها بتاريخانيته الممتدة، وسنأتي على مناقشة هذا الموضوع بشكل مفصل بمبحث خاص تحت عنوان سسيولوجيا الجسد : خطاب الوجود الاجتماعي. باذن الله. ( اشارة الى عدم استلزام مظهرية الزي عند الغربيين)

[2] . إ. م. بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، ت: د. عزت قرني، عالم المعرفة، ع 165، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، الكويت 1992، ص 235-236.

[3] . ناصيف نصار، الذات والحضور – بحث في مبادئ الوجود التاريخي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، بيروت – لبنان، 2005، ص 13.

[4] ناصيف نصار، الذات والحضور- بحث في مبادئ الوجود التارخي، مصدر سابق، ص 13.

[5] جون ماكوري، الوجودية، ت: د. امام عبد الفتاح إمام عالم المعرفة، المجلس الوطني، ع 58، الكويت، ص129.

[6] ينظر: جون ماكوري، الوجودية، مصدر سابق، ص106.

[7] المصدر السابق، ص105-106.

[8] ميشال فوكو، العناية بالذات، ت: جورج ابي صالح، مركز الانماء القومي، بيروت، 1992، ص106.

[9] د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، دار افريقا الشرق، الدار البيضاء، بيروت، لبنان/ المغرب،1999، ص83.

[10] نيتشه، ما وراء الخير والشر، ت: جبزيلا فالورحجار، غروب، ط1، بيروت، 1985، ص288.

[11] ينظر: ميشال فوكو، العناية بالذات، مصدر سابق، ص40.

[12] . ينظر: د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، مصدر سابق، ص 89.

[13] . ينظر: نيتشة، ما وراء الخير والشر، م. س ، 288

[14] . ينظر د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، ص 89.

[15] . يذكر سارتر (بان النشاط الجنسي (sexuality) يحمل معنى واسعا. بحيث تدخل فيه اشكال جنسية مثل الماسوشية (masochism) والسادية (sadism) وهي الوان من العلاقات لا تدخل ضمن العلاقات الجنسية بالمعنى الضيق لهذه الكلمة) انظر: جون ماكوري، الوجودية، م س ، ص 130. وبالفعل فان العلاقة الجسدية الجنسية ليست مرتبطة بالسلوك الانساني وانما هي مرتبطة بما هي فعل جنوسوي. وبالامكان ان نجد شخصا يمارس سلوك السادية خارج الفعل الجنساني.

[16] . سيغموند فرويد، قلق الحضارة، ت: جوج طرابيشي، دار الطليعة، ط1، بيروت، 1979، 86.

[17] . مطاع صفدي، نقد العقل الغربي- الحداثة وما بعد الحداثة، مركز الانماء القومي، بيروت لبنان، 1990، ص124.

[18] . ينظر: علي حرب، لعبة المعنى – فصول في نقد الانسان، المركز الثقافي العربي، ط 1، بيروت، 1991، 127.

[19] . ابراهيم محمود، وانما اجسادنا، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا، 2007، ص 12-13.

[20] . ابراهيم محمود، وانما اجسادنا، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا، 2007، ص 12-13.

[21] . د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، م س ذ ، ص 89

[22] . حسين موسى، ميشيل فوكو – الفرد والمجتمع، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1 بيروت 2009، ص 13.

[23] . د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، م س ذ ، ص 89