بحث في هذه المدونة

الخميس، 13 يونيو 2013

سكسيولوجيا الجسد، حفر أركيولوجي للمفهوم


سكسيولوجيا الجسد، حفر أركيولوجي للمفهوم 
الجنسانية (Sexuality) أحد المفاهيم التي لا تقل أهمية عن مفاهيم أخرى في الخطاب الجسدي؛ ليس لأنه كمفهوم يقوم بعملية التحديد البيولوجي الذي يشطر مفهوم الجسد إلى شطرين متمايزين:(ذكر- أنثى)، وإنما لأنه في منظومة الخطاب ذاتها محاط بإشكاليات كثيرة، يحتاج واقعها الفعلي الثبوت إلى مزيد من الإمعان والنظر، خاصة وان هذا الواقع الفعلي في جنسانية الجسد قد جاء بشكل بعدي ولاحق لذلك الذي وصفه القرآن الكريم بـ(أحسن تقويم)، على الرغم من قابلية تحقق الجنسانية في الجسد الآدمي، أمر سابق في كينونة الذات وقدراتها القووية الكامنة فيها، وكأن إعلان الجنسانية في الأجساد جاء بانتقالته من القوة إلى الفعل.

إذ دفع هذا الإعلان الإجهاري المحدد بالجنسانية للنظر إلى الجسد نظرة أخرى، غير تلك التي يراد منها النظر لجهته الانطولوجية التي تمثل(البقاء) فقط، وإنما أصبح الجسد ومنذ هذه اللحظة جسداً يمتلك آلة الإنتاج، وبشكل رمزي تم تفعيل البعد الزمكاني كذلك، ليخضع الجسد إلى آلة الاستهلاك. منذ اللحظة ذاتها تلك التي قال فيها تعالى جل وعلى (اهبطا منها)[1]، لتبدأ وبشكل متوالي خلافة الجسداني إلى حين انتهائها.

وهذا يعني ان الحد الفاصل في عملية التصنيف الجنوسوي وبإعانة تقريرات البحث الانلوطيقي الدلائلي قد تتعدد الى مستويين او ظاهرتين بديهيتين : الاولى منهما تشير الى المفهوم الذكوري، والثانية تشير الى المفهوم الانوثوي، لكن وعلى الرغم من ذلك بقي الكشف الماهوي في الأدلة الانلوطيقية ذاتها جامعاً لهذا التمييز الجنوسوي بين كليهما، لأن الماهية تنظر الى النوع بما هو نوع انساني، لذا فالانسانية في بنية الخطاب الجسدي أرفع من الجنسانية؛ لرمزية الاولى البلاغية وتشفيرها الكلي في منظومة الخطاب الجسدي الذي يشير الى حق التساوي بشكل كامل وجمعي. إذ لا تمايز هنا في حق الانسانية كمبدأ ماهوي انلوطيقي، ولديموغرافية الثانية التي تنظر الى ترسيم خارطة الجسد وتشطر حد التساوي الى شطرين، حتى اصبحت هذه الاشارات الثنائية بما هي وقائع انطولوجية تشكل محورا في منظومة الخطاب الكلي بغض النظر عن خصوصية الخطاب الجسدي فيه، فبات اعم ما في الوجود من ظواهر ممتنع الانفكاك عن هذه الثنائية، حتى قيل وفي طروحات فلسفية لا يمكن اغفالها ان الثائية مبدأ قام عليه الوجود بالجملة. غير ان تأكيد قيام الخطاب (الجسدي - الجنساني) عليها امر مفروغ منه؛ ليس لانه واقع في قبال العياني الظواهري(الفينومينولوجي)، وانما هو مفروغ منه؛ لانه يشكل فطرة الخطاب ذاته، تلك الفطرة التي فطرت عليها الاجساد، بغية تحقق مبدأ الانتاج فيها، على شاكلة من التكرارات المتوالية. سواء اكان هذا الانتاج (التوالد) للاجساد مرتبط بجسدانية (الانسان) ام بغيرها. اذن فالتمايز المورفولوجي لخريطة الجسد في تقسيماته الديموغرافية، ذات الطابع التمييزي اساسا: هو الامر الذي سيقع عليه اهتمام الخطاب الجنساني، على الرغم من فاعلية التقسيمات الانلوطيقية في توضيح المسألة، اذ لا يخفى حضور الاعضاء كعلامات (بايوجنسانية) تكوينية، التي سترسم ملامح الخطاب (الجنوسوي)؛ لانها حضور لازم غير مفارق للموجود الجسدي، وفي الحال سيحدد هذا اللزوم سمة التمييز (التفريق) بين (انتَ) او(انتِ) في اشتغالات فكرية عامة. بل سينمو على هذه الافكار وسماتها نوع من التقسيم الاممي في المجتمعات وعبر ادوار حضارية بين جماعات (ذكورية) واخرى (انوثوية).

اذن فالارتباط الفعلي بفينومينولوجيا الاعضاء الجسدية بين (البارز) او الناتئ، وبين (المضمر) أو الغائر، هو الذي يفسر اهتمام العديد من الدراسات كالطبية والدينية والفيزيقية وحتى الميثولوجية والفنية الجمالية وغير ذلك؛ بغية الإحاطة بهذه الظاهرة من جوانب مختلفة. فالجنسانية فضلا عن كونها مفهوماً لاحقاً للجسد – كما تبين – إلا انها تكاد تحتل الصدارة في خط (القبلي والبعدي) على حد سواء. لست بذلك انوي تبديل المقولات او حتى خلطها بل على العكس؛ فـ(الجسداني – الجنساني): الجسد الجنسوي، اخذا يعنيان مفهوماً واحداً لارتباطهما ارتباطاً انطولوجياً بدعوى فطرة الاجساد. ولا اصالة تدعو لتمييز مفهوم الجسدي عن مفهوم الجسد الجنسوي، عدا ان الاول اسبق في حضوره داخل اشتغالات الخطاب فضلا عن كون ادراكه لا يحتاج الى وساطة الحواس، لانه من اولى المدركات الحضورية، بينما يحتاج الجنوسوي كمفهوم الى وساطتها، لانه من معطيات التحصيل والكسب، غير ان التفاوت في حضور الجسدي وغياب الجنوسوي لا يتعدى بضع سنوات ليطرح (انتَ) اسئلته عن الاختلاف العضوي والشكلي الموجود لدى (انتِ) والعكس بالعكس، وبطبيعة الحال فان البحث عن اجابات تخص الذات، يعني الوقوف على معنى (أنا) بشكل يحقق في ما بعد الدور والوظيفة التي يفرضها علينا الخطاب بوصفه سلطة. وإن كان عن طريق التسمية التي امتلكت جنيولوجا الحضور، على الرغم من نفوذ البعد الايهامي في توجه القصد نحو المسمى، خاصة في ما لو علمنا ان النظام الاستراتيجي في التسمية لم يكن فاعلا (ربما) حتى قدوم ذلك الذي (عُلِمَ الأسماء كلها). حتى أصبح (انتَ: آدم) و(انتِ: حواء).

وعلى اية حال فقد اتاح هذا الحضور والغياب المتفاوت للسؤال ان يبدو في نظام الخطاب ذاته مفتاحاً لتحديد الهوية الذاتية، او على الاقل هو دعوة لرسم الملامح الاولى لمحدد الـ(انا) من جهة جنوسوية. التساؤول يعني تحفيزاً للكينونة ان تكون بما هي عليه، لان الاجابة هنا لا تعني كشفاً لنتيجة اخرى، انما هي تقرير لعضوية لزومية، ليس للـ(انا) شأن في وجودها من عدمه، كما ليس له الحق في ان يختار ما يناسب الكينونة ان تكون (انتَ)ام (انتِ) – هذا بحسب مقولات تلك الفطرة الجسدية. اما اليوم وبفضل التسارع التقني والعلوم البايوطبية فللكينونة ان تختار ما تشاء - انه الانغلاق الاكثر فاعلية في خطاب الجنسانية الذي يحدد الذات بكشفها لهويتها، من دون تداخل في المعطيات بين السؤال والاجابة اللاتي اثارهما التأكيد العضوي في خريطة الجسد. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن الجنسانية في الخطاب الجسدي هي في حد ذاتها بمثابة زائر يحتفى به منذ قدومه حتى رحيله، انه الزائر الذي ينمو ويكبر في بناية الجسد، وينتقل بـ(الذات) من تساؤلاتها تلك، الى افعالها التي تصبح اجابات على جسد(الاخر). الجنسانية من هنا تثير فينا الاهتمام، ليس لانها زائر فحسب، سيقوم بملأ فراغ تلك التصورات التي تركت خالية في الأسئلة بين قوسين ومساحة منقطة، وانما لانها تعني حضوري امام (الاخر) الذي يقابلني في تأكيد حضوره من خلالي. انه تداخل في معطيات اجابة الاسئلة بين (أنتَ): آدم، وبين (انتِ): حواء، او لنقل أن الخطاب الجسدي أصبح يمثل الـ(انا)، لكل واحد منا في خطاب اخر فعله زائر شكل الكثير من اهتمامنا اطلقنا عليه مصطلح الجنسانية. انه تأكيد للجسدي بين التصور الذهني للفعل، وبين صورة الجسد المنفعلة، او هو إعادة ترسيم لذلك التمايز المورفولوجي وقراءة الجسد قراءة جديدة، تفعل فيها انظمة الشخصنة واهتمامات (الذات) للبدء في رحلة الكشف من أي منطقة ديموغرافية تشاء، وصولا لتلك المناطق التي اثارت حفيظة السؤال. انه تفعيل لا يستدعي انظمة البلاغة ولا يرتبط بالافتراض ولا الإيهام، انما هو اشتغال حقيقي وتطبيق فعلي لخطاب الجسد، إلا انه ومنذ القدم، كان وما يزال من أكثرها خصوصية وقدسية، فمحل القراءة لا يتم إلا بعد إحكام إغلاق كل منافذ التطفل او استراق النظر، وهذا طبعا واحد من تعاليم تلك القائمة الطويلة التي يفرضها الخطاب الكلي بوصفه سلطة. فضلا عن توصيات انظمة خطابية اخرى كالخطاب الديني الثيولوجي والخطاب الاخلاقي والعرفي الاجتماعي وغير ذلك.

في التاكيد على الظاهرة الجسدية التي لاتمثل إلا جسدي (انا)، وبحالة من الاعمام الشامل لكل الاجساد الاخرى، التي لا تمثل اجسادها إلا (أنواتها)، سنقف على نوع من الحدود الكفافية وحصر شكلي وصوري لكل موجود جسداني وبشكل منعزل عن الاجساد الاخرى، ولايمكن ان يكون هناك تداخل في كفافية الحدود الخارجية للأجساد إلا بعد تفعيل آليات اشتغال (الجنسانية)، لان التواصل الجسدي في مقولة حث الجسد على انتاج ذاته مرة اخرى بشكل (ولادي) لا شك بانه متوقف على حدوث التداخل بين الجسدين(انتَ - انتِ) – هذا لمعظم الكائنات الحية – بمعنى ان التواصل (السكسيولوجي: الجنساني)، بغض النظر عن مفهوم الاستمتاع ومفهوم اللذة يخلق نوعا من التوحد الجسدي المؤقت. غير اننا " لا نشتهي الاخر، لذاتنا نحن انفسنا، وانما نحن نشتهي الاخر ذاته "[2]، أي الوحدة بين ذات (انتَ) و (انتِ)، و إلا فالتوجه الجسدي بمعزل عن وحدة الذات وإن كان بمستوى القبول والايجاب سوف لن يكون عدى إرتباط جنساني لأجل الجنسانية كعملية آلية مفرغة. " إن الحضور القصدي هو، بوجه اساسي، حركة من الذات نحو طرف معّين لإقامة إتصال به، ومن ثم لإقامة تواصل معه. وهذه الحركة قائمة في صميم الذات، لان الذات لا تسكن في ذاتها، مستقلة ومنعزلة عن غيرها بصورة مطلقة"[3]، الامر الذي يفرق بين جنسانية الجسد المتصف بـ(الانسانية) عن غيره من الاجساد الاخرى، وان كان هذا التمييز على مستوى الجنسانية الان، لانها مدار البحث، والا فالانسانية لها ما يميزها عن بقية الاجساد الحية بشكل لا يكاد حصره.

إذن فمجرد الاختلاف الظواهري في صورة الجسد ومحيطه الكفافي الذي يخصه، يعني ادراك أو تشخيص جنساني، وأن هذا الادراك يدعو الى تحقق الاتصال بين الذات والذات الأخرى، بغية الشعور بما يحقق الكينونة، لأن الذات في دور مقابلة الذات يعني اكتشاف كل منهما في الأخر، انها عملية ثنائية في مستوى الرؤية، وفي مستوى الفعل، بل وفي مستوى الأداء الجنساني كذالك، فالذات" تعيش الحضور القصدي كوضع كياني لها، وفي هذا الوضع، تختبر حقيقة أختلافها عن الغير واختلاف الغير عنها ووظيفة الأتصال بالغير من حيث أنهُ يكشف حاجتها الكيانية الى التعرف الى نفسها عن طريق ملاقاة ما ليس هي وما ليست هو"[4].

ألم أقل في بداية الحوار أنهُ تأكيد للجسدي بين التصور الذهني للفعل وبين صورة الجسد المنفعلة. ذلك التأكيد الذي أثار فينا السؤال، أنما سؤالنا عن الظاهرة العضوية البايولوجية التي تحقق الاختلاف في حدود فينومينولوجية(ظواهرية)، سؤالنا عن معنى وجود هذا الاختلاف المورفولوجي في خريطة الجسد الديموغرافي بين كل من(هو: أنتَ) و(هي: أنتِ)، سؤالنا عن الثنائية في أصلها الفلسفي، ذاك الذي لولاه لما تحققت أنطولوجيا الفعل المتكرر في أنتاج الجسد منذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها أنهُ كجسد يحمل بين ثناياه خصاصة الخطاب الجنساني. والغريب في المسألة هنا: أن خطاب الجسد بما هو جسد بمعزل عن الجنسانية لم يستطع أغفال (الأخر) أو التغاضي عنه او عن وجوده الذي يعني وجودهُ (هو)، وقد قلنا ان مسالة اثبات وجودي بمعزل عن الاخر امر عسير في الحضور الانطولوجي للفكرة. وان خطاب الجسد بما هو جسد جنساني كذلك احتيج الى حضور(الاخر) في ذات الاثبات الانطولوجي للفكرة كذلك. انه تاكيد على الخارجي والداخلي، في أنظمة الخطاب الشكلي او الصورة الجسدية، التي تميز(انا) عن (انا) الاخر، وفي الوقت ذاته يكوون التاكيد على كل منهما، ففي التواصل الجسدي يعني تواصلي في الحضور والا فانقطاعي ان لم يكن مؤشر للعدم فهو مؤشر للغياب، اذن فالاخر بما يعني انه انا هو الذي يشكل عنصر الاهمية حتى الان، لانه كـ(اخر)، " إما ان يكون جسدا بالنسبة لي بحيث يكون موضوعا للرؤية واللمس..الخ، او ان اصبح جسدا بالنسبة له واشعر بنفسي موضوعا له"[5]. انه لا يعدو اكثر من تبادل الادوار بين تلك الاختلافات التي من اجلها إنما أصبحت الجنسانية جنسانية، وان ادراكها الذي حققها الاختلاف الشكلي، ذلك الادراك الاول لاشك بان الانسانية مدينة له. لانه ادراك لم يأت بالاستناد الى خبرات الاخرين وانما هو اكتشاف قبلي لكل خبرات الاخرين انفسهم.

وفي عودة الى حضور الجسدي الجنساني في انظمة الخطاب المتداخل بين ما يحقق الاختلاط او التجاذب المحقق للذة ولديمومة الجسدي ذاته، يكاد وعي الخطاب بما هو وعي كلي، يشير الى مجموعة من التساؤلات، ترتبط بالجسداني من جهة وترتبط بالجنساني من جهة اخرى، ونحن نعلم علم اليقين بان الارتباط العضوي بين الطبيعة بما هي مواد مختلفة وبين الجسد بما هو طبيعة عضوية متحقق بنمو يثير فينا الاستغراب، إلا ان هذا الاستغراب قد دفع بنا على حد قول(جون ماكوري) في كتابه الوجودية ان ننظر الى اجسادنا التي تتميز بجانب كبير من التعقيد العضوي، نظرة تشريحية او فسيولوجية[6]، اذ ستتيح هذه النظرة ان نتعامل مع الاجساد على اساس انها مواد بحثية قابلة للدراسة من هذه الجهة، لكن ما الذي يميز جسدي(انا) عن جسد غيري بوصف اخر غير ذلك التوصيف الذي ارتبط بالمادة العضوية الحية، بمعنى اخر ثمة تساؤلات عن معنى (انا) في جسدي المتداخل بالوقت نفسه عن معنى(جسدي) في(انا)، وهذا هو غير سؤال(جون ماكوري) عندما سأل:" أي التعبيرين اكثر دقة: أن أقول(انني امتلك جسدا) او ان اقول(انني جسد)؟ "[7]، لان مجرد لمسي انا لجسدي اشعر وعلى الفور باني ملموس، باني موضوعي في الادراك. وحينها سأقر باني امتلك جسدا فيزيقيا خارجيا، واني بمجرد ما ان اكون موضوعا ادراكيا لغيري ساشعر وعلى الفور كذلك باني (جسد)، وان كانت هذه التساؤلات تحتوي على ابعاد توضح اهمية العلاقة الغيرية بيني وبين الاخر، واهمية حضور ادراكي في الجسدي الخاص بي المختلف عن ادراكي للجسدي الخاص بغيري المرتبط بالحصول، الا انها لا تكشف لنا عن(الجسداني والجنساني) في وعي الخطاب ذاته، بقدر ما تكشف لنا اهمية الجسد كمحور انلوطيقي(معرفي)، وهنا اود التمسك بابعاد اخرى غير تلك التي أكون فيها إما موضوعا فسيولوجيا او بايولوجيا، وإما موضوعيا ادراكيا انلوطيقيا من جهة ابستمولوجية، خاصة وانه قد ثبت في ما سبق بان وعي الخطاب يستلزم حضور(الاخر) بما هو شريك في(الجسداني) كنظام خطابي و(بالجنساني) كذلك: وهو البعد الجسدي الجنساني(المؤنسن) الذي يميزنا انا والاخر على حد سواء؛ لان فعل(الانسنة) على خطاب الجنسانية يكاد يكون من المسائل المفروغ منها، خاصة ونحن نعلم بان الكائن البشري هو كائن ثنائي بطبعه وقد خلق ليعيش في خلية ثنائية ضمن علاقة تتيح له ان يؤمن خلفا وان يقصي حياته مع شريك بمعنى ان الفعل الجنساني في الجسدي هو فعل(طبعي)، اي مما طبع عليه الجسد بان يكون جسدا له وظيفة الجنسانية، وحسب تعبير ميشيل فوكو" وكأن الطبيعة هي التي تحث الافراد على الزواج وتدفعهم اليه دفعا "[8].

اذن فالخطاب الجسدي -الجنساني، بما فيه من خصاصة الاعضاء الجنوسوية، ليس هو من قبيل ما يبدو عارضا عن الجسد، وانما هو ذاتياته التي ترتبط بتلك الفطرة التي فطر عليها الجسد، الا ان تعامل الانسان مع هذه الخصاصة دفعه الى تاسيس وعي بها، اذ نقلها من حدود المشاعة الجماعية، كما في العصور البدائية، الى حدود الانضباط المدني، او لنقل ان التحول في الوعي الجنساني اخذ بالانتقال من محاكاة الظاهرة الجنسانية في سلوكها الطبيعي الغابوي الى تاسيس سلوك جنساني ملتزم يمثل ابعاد(الانسنة) في صورة اعراف وتقاليد وقوانين. " ان التحول في النموذج الجمالي يدل على الاشتغال المستمر للثقافي على الطبيعة، وهو يشكل ايضا فعل الجسد المثال على الجسد الواقعي. بحيث يتحول الجسد بفعل هزات وتبادلات عنيفة كي يتلائم مع الصورة العرفية المتواضع عليها. بهذا المعنى يكون التركيز على الاعتدال نوعا من مداورة المصير البيولوجي للجسد وتحويله الى اداة رمزية خاضعة اكثر فاكثر لقرار الجماعة البشرية في تحديد الجميل والمشتهى والمقبول " [9] انه نوع من تاكيد سلطة الكبت الجماعي على الدور الجنساني في الجسد، على الرغم من كونه طبع من طباعه الذاتية. وعلى حد تعبير (نيتشه) في جانب اخر من عرض الحوار، بانه نوع من انواع اختراع (الضمير)[10]، او لنقل بان ما يقلق الانسان من خطر غريزي مرتبط بالفعل الجنوسوي هو الذي دفعه للبحث عن مؤسسة الضمير اذ " لا مراء بان هذا التحول ليس نتاجا ضروريا لهذه التحويرات الاجتماعية بقدر ما هو مؤشر على صياغة وتشكيل استطيقا عيش جديدة "[11]، تنسجم وتطلعات المجموع بشكل يحقق انسنة الجنسني والكف من اندفاع الغريزي، هذا اذا ما وضعنا شدة الارتباط في ما بينهما بنظر الاعتبار؛ العلاقة الجنسية بالاساس هي علاقة جسدية مع (الاخر) ولا نحتاج الى عناء كثير لاثبات انها ليست ذات طابع عقلي، الامر الذي يجعل من تحصيلها مرتبطا " بالمتعة والشهوة والنموذج الجمالي "[12]، ان العلاقة الجسدية في ما لو اتيح لها الانفلات من سلطة الضمير لجعلت من الإنسان أن يبدو " حيوانا متعددا وافاكا ووهميا " [13] يحاول " تأسيس اللحظة الجنوسوية المرتقبة ولو على مستوى المتخيل " [14]، فضلا عن العنف والعدوان الجنوسوي الذي لا شك بأنه دفع كذلك الى وجود مفهوم انسنة الجنس[15]. اذا ما حسبنا فعلا ان " العدوانية تمثل استعدادا غريزيا بدائيا ومستقلا بذاته لدى الكائن البشري" [16] بحسب تعبير فرويد.

الجسداني بمعزل عن كل شيء مما يلحق به في انظمة الخطاب، انما هو باحث دأبه تحصيل لحالة السكون، تلك التي تبدو وكأنها قادمة من ترتيل مستمر لا نهاية له من (الإرواء) المؤقت. " او بعبارة نفسية تحليلية، ان العضوية هي قلق لانها بحاجة دائما لتستمر الى عضوية تغايرها "[17]، الجسداني بمثابة نضيدة طبعها فقد الطاقة وغايتها إعادة الشحن. أو لنقل انه يحث الذات وبشكل مستمر على تحصيل ما يجعله قابلا للنمو، بلغة الأخذ المتناوب على شكل أرواءات متقطعة؛ لأنه جسداني فقط ومرتبط بعضويته الطبيعية بشكل مباشر، ناهيك عن كونه بذاته محط النظر الغرائزي " إن الجسد هو حقا فروج، إذا ما نظرنا إليه من منظور اشتهائي. وموضع الغواية فيه ما يومض منه من وراء الحجاب. أو ما يسطح عبر شقوق، الرداء، وما ينشق وينفرج من الجسد نفسه " [18]؛ الأمر الذي يفسر ظهور تعدد تقنية الخطاب السلطوي الذي يحاول التقليل من هيمنة الجسداني ضمن اطر وصياغات متجددة ومواكبة لعصرنة الجسداني الجنوسوي حتى عبر حضوره في شاشات الحوسبة وكاميرا الويب (Web : كاميرا التواصل عبر الانترنت)، وحتى في اشد انتقالاته إبداعا وتوظيف البعد الجمالي فيه على شكل منجزات فنية، أخذت سلطة الرقيب تمارس السلطة فيه بدعوى (ضمان الجودة او فحص النصوص او الرقابة الاجتماعية)، وهنا لا يتعدى الأمر كونه عملية ترجيح لكفة العقل على كفة الجسد؛ حتى أُشرَ وفي مواضع كثيرة دونية الجسدي مقابل العقلي، وبقطع عرضي مقصود اسمحوا لي مناقشة هذه الفكرة:" ثمة فائض شهواني، متعي لذائذي، أوجده الإنسان وألحقه بالغريزة، ليمنح العقل قوة ردع "[19]، إلا أن الكاتب (إبراهيم محمود) هنا يميل إلى عدم استحقاق العقلي لهذه السلطة، بدعوى ان الغريزة ذاتها هي التي دشنت تاريخ الكائن الحي، ونظمت وجوده، ويميل كذلك الى ترك(الغريزة في تنوع مسمياتها: جوعا، عطشا، تعبا، جنسا... الخ تقوم بعملها، تروا نتائجها غير المتوقعة: المدهشة)[20]، وفي ذات الموضع يؤكد حيونة الانسان بشكل اخس من الحيواني ذاته بقوله: (هذا الكائن الحيواني: القرد العاري الداب على اثنتين، تعلم أكثر مما تعلم من سلفه الحيوان، وهاهو يصيغ الكثير من صفاته وخصائصه، وحتى سجاياه استنادا إلى معرفته للحيوان، فالغدر في العرقب، والمكر في الحية، والخبث في الذئب، والثقة بالذات في الأسد، والزهو في الطاوس، والتضحية في البجعة، والخيلاء في الحصان)، الخ..، والحق يقال انه مُغالٍ بواحدية النظر حتى في دفاعاته عن مطلبه؛ لان حجية وجود الغرائز من عدمها في الجسد لا تعني ابدا انها الجانب الحسن في الوجود الذي سيقود الموجود الى عوالم رقيه وسموه، والشاهد هو الحيوان محط المثال (القرد العاري) فلم لم نلحظ له تقدما او حتى نموا في انظمته الادراكية، صحيح انها كانت المحفز لاستمرار الجسدي في نظام من الولادة المتوالية، إلا ان العقلي دفع الانسان الى العفة والحياء في التعامل مع الغريزة، بل واخذ يؤسس لها خطابا شموليا لدراستها وتوظيفها لصالح الانسان ذاته. ان الوعي بالخطاب احال ما هو حيواني الى ماهو انساني اكثر، انه بمثابة تغليب للبلاغي على الطبيعي، خاصة وان مقصدية الشهوة تتحكم في صياغة هذا النموذج الخطابي البلاغي؛ لان" كل رغبة هي نوع من انواع العشق، وما من شيء يدعو الى المجازي والتصوري البلاغي اكثر من العشق والرغبة، حتى ان الاخيرة لها القدرة على تجرد الجسد من علاقاته لتتمكن من تملكه تخيلا وواقعا "[21]، لكن هذا لا يعني ابدا الاقلال من شأنية الحسي او الجسدي بما هو هو؛ وعلينا ان ندرك وبشكل شمولي ان كل ما للعقلي لا شك بانه قادم من عتبة الحسي.

اذن يمثل كل من (انا) بشكل فرداني، او (نحن) بشكل جمعي وجوه القدرة للسيطرة على ما يمثل اللذة او الشهوة ، والدليل هو الفحص التاريخاني لتمرحل الجنوسوي في ادوار للحد من هيمنته؛ لان الفارق يكاد يكون واضحا بين طفولة المجتمع البدائي القديم وبين ابوة المجتمع الحديث او حتى المعاصر، فـإن في " ارتكاز عمل السلطة وبث مفاعيلها ليس فقط من اجل استبعاد الانحرافات وحالات الشذوذ وإنما كذلك توفير الاسس التي تقوم عليها العلوم الجديدة. ان الاهتمامات الفكرية والاخلاقية للسلطة، التي تتجلى في الخضوع لفن من فنون ترشيد السلوك وإضفاء الطابع الجمالي على الحياة خصوصا في العلاقات الزوجية وما يتصل بها من تصورات خاصة بالمتعة واللذة، ترفع هكذا علاقة إلى مستوى القيمة العليا للحياة "[22]. لقد دفع الخطاب الجنساني من شدة ما يحتله من مكانة عليا ومهمة بالإنسان إلى التعامل مع الجنس بمزيد من التكتم والسرانية، لانه يمثل الذات بما هي ذات تنظر في مرايا من يقابلها حضورا منعكسا، اخذ البعد الجنسوي يحمل في ثناياه الكثير من خصاصة الرمزي لينتج انموذجه التاريخي المتكامل؛ " فبقدر ما يكون مغلقا ومجردا عن خصيصتة الواقعية بقدر ما ينغرس في المتخيل الاجتماعي ويؤثث فظاءاته الشهوية. ويقدر على التحكم في النشاط الجنسي ضمن العلاقات الاجتماعية "[23]،


====
[1] . بعد ان كان الجسداني الأسبق لنبي الله ادم عليه السلام يعيث في الأرض فسادا، كما تخبرنا بذلك نصوص الثيولوجيا والأدلة المادية كما سيأتي في محله عند دراسة (انثربولوجيا الجسد)، خلق الله تعالى ادم عليه السلام ليكون خليفة له قابلية التعلم والنطق، وفي ذات المسألة الجسدانية اخذ الموجود المخلوق من (نار) يفاضل بين الموجود المخلوق من (طين) باحثا عن أشرفية المواد ومراتب أصالتها، في جدل دفعه إليه الغرور، وكانت المحصلة أن يقوم بفعل الغواية إلى يوم يبعثون، وأول أفعال غوايته أن وسوس إليهما في الاقتراب إلى الشجرة، بإقناعهما بان الابتعاد عنها يعني حرمانكما بان تكونا من الملائكة أو تكونا خالدين، وهو بفعله هذا إنما أراد أن يطئا بقدميهما الطريق المؤدي إلى العدم. إذ صاحب هذا الاقتراب من الشجرة أمره تعالى: ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ) (طه:123) أي بين الموجود من (نار) وبين الموجود من (طين). هذه الإشكالية فتحت الباب لاحتساب الزمن بما هو (قبلي) وبما هو (بعدي)، ليقوم بعملية استهلاك الجسداني بكلا نوعيه، اذ قال الى يوم يبعثون، وهي في الوقت ذاته تشير الى حدوث الجنسانية في الجسد، هذا الموضوع المتخفي فيه، لينتقل هذا الحدوث من القوة إلى الفعل، والشاهد قوله تعالى: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما). وهي كإشكاليه تشير الى مطلب اخر في جنساني الجسد وهو: ان الله تعالى خلق ادم علية السلام من طين، كتمثال، ثم بعد ذلك خلق حواء من بعض ذلك التمثال، وهذا وان يعد تمييزا لأدم من دون حاء. الا ان التمييز الاكثر فاعلية في خطاب الجنسانية، هو نقطة الشروع الاولى، تلك التي من جرائها في الظهور اخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، انه الاعلان الاجهاري الاول، لبداية الخطاب الجنساني كما تترتب على هذا الامر مسالة اخرى رابعة تتعلق بـ(الازياء) او اللباس، ومنذ هذه اللحظة سينشأ في الخطاب الجسدي مفهوما جديدا وهو الجسد (المستور)، او المتجلبب، فكان ورق النبات هو اول لباس في هذا الكشف الجنساني، وقد حدث نتيجة لرد الفعل منهما ليخفيا ما كان اصلا متوار، وفي بعد رمزي لاشتغالات هذا الفعل ورد الفعل، يمكننا القول بأنهما ارادا اخفاء قبح الفعل ذاته؛ لان الجنسانية هنا : ما هي الا نتاج فعليهما، وبناءا على ذلك سيأخذ (الفعل ورده) دورا مهما في تراتبية (القبلي والبعدي) الجنساني، الامر الذي يفسر حلول الجسد في اقامته الجبرية داخل (الازياء) ومنذ تلك الفترة؛ ليس لانه فعل السنة فقط، وانما لان عملية الكشف الاجهاري لما هو متواري يشير بالفعل الى تلك (الخطيئة)، بل وهو من علائم التخلي عن الحكمة المتعقلة، هذا من جانب الثيولوجيا والتعاليم السماوية المقدسة، والا فهو من جوانب اعتقادية اخرى لايستلزم هذا التجلبب ابدا، غير ان الاخير، اخذ يشكل في خطاب الجسد ظاهرة لا يمكن اغفالها، لارتباطها بتاريخانيته الممتدة، وسنأتي على مناقشة هذا الموضوع بشكل مفصل بمبحث خاص تحت عنوان سسيولوجيا الجسد : خطاب الوجود الاجتماعي. باذن الله. ( اشارة الى عدم استلزام مظهرية الزي عند الغربيين)

[2] . إ. م. بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، ت: د. عزت قرني، عالم المعرفة، ع 165، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، الكويت 1992، ص 235-236.

[3] . ناصيف نصار، الذات والحضور – بحث في مبادئ الوجود التاريخي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، بيروت – لبنان، 2005، ص 13.

[4] ناصيف نصار، الذات والحضور- بحث في مبادئ الوجود التارخي، مصدر سابق، ص 13.

[5] جون ماكوري، الوجودية، ت: د. امام عبد الفتاح إمام عالم المعرفة، المجلس الوطني، ع 58، الكويت، ص129.

[6] ينظر: جون ماكوري، الوجودية، مصدر سابق، ص106.

[7] المصدر السابق، ص105-106.

[8] ميشال فوكو، العناية بالذات، ت: جورج ابي صالح، مركز الانماء القومي، بيروت، 1992، ص106.

[9] د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، دار افريقا الشرق، الدار البيضاء، بيروت، لبنان/ المغرب،1999، ص83.

[10] نيتشه، ما وراء الخير والشر، ت: جبزيلا فالورحجار، غروب، ط1، بيروت، 1985، ص288.

[11] ينظر: ميشال فوكو، العناية بالذات، مصدر سابق، ص40.

[12] . ينظر: د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، مصدر سابق، ص 89.

[13] . ينظر: نيتشة، ما وراء الخير والشر، م. س ، 288

[14] . ينظر د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، ص 89.

[15] . يذكر سارتر (بان النشاط الجنسي (sexuality) يحمل معنى واسعا. بحيث تدخل فيه اشكال جنسية مثل الماسوشية (masochism) والسادية (sadism) وهي الوان من العلاقات لا تدخل ضمن العلاقات الجنسية بالمعنى الضيق لهذه الكلمة) انظر: جون ماكوري، الوجودية، م س ، ص 130. وبالفعل فان العلاقة الجسدية الجنسية ليست مرتبطة بالسلوك الانساني وانما هي مرتبطة بما هي فعل جنوسوي. وبالامكان ان نجد شخصا يمارس سلوك السادية خارج الفعل الجنساني.

[16] . سيغموند فرويد، قلق الحضارة، ت: جوج طرابيشي، دار الطليعة، ط1، بيروت، 1979، 86.

[17] . مطاع صفدي، نقد العقل الغربي- الحداثة وما بعد الحداثة، مركز الانماء القومي، بيروت لبنان، 1990، ص124.

[18] . ينظر: علي حرب، لعبة المعنى – فصول في نقد الانسان، المركز الثقافي العربي، ط 1، بيروت، 1991، 127.

[19] . ابراهيم محمود، وانما اجسادنا، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا، 2007، ص 12-13.

[20] . ابراهيم محمود، وانما اجسادنا، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا، 2007، ص 12-13.

[21] . د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، م س ذ ، ص 89

[22] . حسين موسى، ميشيل فوكو – الفرد والمجتمع، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1 بيروت 2009، ص 13.

[23] . د. فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الاسلام، م س ذ ، ص 89

السبت، 8 ديسمبر 2012

الجسد والانطولوجيا – مفهوم وتساؤلات


الانطولوجيا (ontology):"العلم الذي يكون موضوعه الوجود المحض، أو الموجود المشخص وماهيته، أو الموجود من حيث هو موجود، أو الموجود في ذاته مستقلا عن أحواله وظواهره"[1]، وهنا أجد من الصّعوبة بمكان تقبل مثل هذه الرّباعية في تفسير الانطولوجيا، لاسيما ونحن ندرك أن التّفكير الانطولوجي يعد واحدا من أقدم أنواع التّفكير الإنساني، بل أستطيع القول بأنه القاعدة الأساسية التي قام عليها الفكر المثالي بالكامل كمؤسسة فكرية وفلسفية، نمت بشكل كوني واتسعت بشكل تعجز عنه الطّوبوغرافيا (topography) الواصفة بوصفها علماً[2]، حتى بات موضوع هذه (الواحدية)[3] الانطولوجية في مسيرة الفكر الفلسفي يشكل محط أنظار الفلاسفة والمتفلسفين على حد سواء، وكثيرا ما تقابل هذا الموضوع مع الأفكار (الاثنينية) أو (الثّنائية: الثّنوية)[4]، التي سرعان ما استبعدت نظرا لشيوع وقدم مهمة التّفكير الانطولوجي – الميتافيزيقي، خاصة إذا ما أدركنا أن الميتافيزيقيا تشكل"دراسة اعم واشمل عمقا من أي علم خاص؛ لأنها تهدف إلى توضيح البنية الجوهرية العامة لكل تفكيرنا"[5]، فلم نشاهد التّاريخ[6] إلا وهو يتأثر بالمظاهر العقلانية التي تميزه من جهة تكون وجهه الانطولوجي، وسمته التي ارتكزت على ذاته في وجودها المحض؛"لان معرفة السّبب الحقيقي في وجود ظاهرة ما معناه الوصول إلى تفسيرها على أكمل وجه يقبله العقل"[7].

غير أن الاعتراض هنا مرتبط بتشبيه محاور البحث التي تمد فيها الانطولوجيا أصابعها، وكأنها تقلب الوجود بيد واحده، تماما كما لو انه مكعب الشّكل، أو لنقل إن الانطولوجيا سجين قاعة لها أربعة جدران وأرضية وسقف؛ وذلك لان الفكر المثالي ذاته يخبرنا وفي أكثر من موضع، بأن الانطولوجيا مفتاح لإدراك هذا الوجود بكل ما فيه، وما تم عرضه في بداية الحوار مكعب أهمل فيه ضلعان هما: (واجب الوجود) الذي شكل ومنذ الأساس في تاريخانية الفكر محورا ابتدائيا لانطلاقة التّفكير، و(الوجود الاعتباري) الذي به امتلأت المعرفة مفاهيم وتصورات منها ذاتية وأخرى موضوعية، فالأول لا يقسم ولا يحد ولا يتعدد وليس كمثله شيء تبارك وتعالى، والثّاني قد أتضح في العبارة ولا يحتاج إلى بيان.

هناك دور محدد سلفا يعطي للانطولوجيا امتدادا تاريخيا يشكل فيه الإنسان بوصفه (جسداً) ضرورته الجدلية تلك التي احتيج فيها إلى البحث عن جوهر انطولوجيته حتى شكلت في تبادل الأمكنة والأزمنة نقطة ارتكاز تجري وتتناقل من جيل إلى جيل، عبر تدفق سيال، فلم يكن المكان ازاءها سوى امتدادا عرضانياً ولم يستطع الزّمان إلا أن يكون طولانياً وباستقبال مستمر، حتى أصبحت تراتبية الامتداد التّاريخي لانطولوجيا الوجود من جهة والجسد من جهة أخرى تمر عبر صيغة من التّوالي تختزل الزّمكان إلى لحظات متكررة لا يكون فيها (الماقبل) و(المابعد) سوى اصطلاحات مفاهيمية[8]. ويمكن أن نستشهد بالآية القرآنية المباركة: (وتلك الأيام نداولها بين النّاس)[9]، (وكفى). وكأن عملية إعادة الإنتاج الانطولوجي هي التي تعطي ذلك الامتداد التّاريخ لبحث (الإنسان: الجسد) عن علته وماهية وجوده، فليس من حد فاصل بين (الماقبل: المابعد) مادامت الزّمكانية متصلة بأنطولوجيتها التي ذاب فيها توصيف المقولات (العشرة الارسطية)، باستثناء مقولة الجوهر[10]. على الرّغم من كونها قاعدة تلك المقولات إلا أنها منفلتة عنها بل وخارجة منها، لتشكل مقولة الجوهر (النّامي الحساس المتحرك بالإرادة) مفهوما في المعاصرة التي تبدو أنها غير منفكة عن"الجدة"بأي حال من الأحوال، حتى يبدو كل زمكان في كوزمولوجيا الوجود الجسدي الخارجي انه يمثل (الآن).

إذاً فـ(دراسة المبادئ الأولى للأشياء) كما عبر عن ذلك ارسطو أو"علم (الوجود) من حيث هو كذلك"[11] تستوجب النّظر من ستة وجوه وهي: الذي لا مثيل له، والوجود المحض، والمشخص، والمفرد، والذّاتي، والاعتباري، فالوجود الأول هو الذي ينظر فيه إلى علة كل الموجودات ومنشأها، والثّاني هو الوجود المصدري أو الاصطلاحي، والثّالث هو الوجود الذي ينظر إلى الأشياء بما هي أشياء (كالجسد)، والرّابع هو الذي ينظر إلى ظواهر تلك الأشياء بما رحبت من تغير وتبدل، أما الخامس فينظر إلى الماهية التي تشكل الذّات، والسّادس ينظر إلى المفاهيم الذّهنية كاشفا وجودها ومحل شأنيتها[12]، وبذلك أستطيع النّظر إلى الانطولوجيا متكاملة الأطراف من دون عوق يعوق أنظمتها في تفسير أو محاولة وضع البراهين على وجود علبتها ذات السّطوح السّتة، فتلك الرّؤية التّقليدية تبدو وكأنها عاجزة عن تحقيق المشروع الشّمولي لمفهوم الوجود ولو على النّحو الميتافيزيقي، مادام الأخير غير منفك بأي حال من الأحوال عن تحقيق ذات الرّؤية الشّمولية. ومهما كان تأكد الانفكاك فثمة ارتباط يرتد إلى المركز بصفة يتضح فيها الانتماء حيال ذلك (الجوهر)، الذي أكد عامة المثاليين وجوده منذ البداية"وانه سابق على سائر الاشياء الأخرى لا من حيث الوجود فحسب، بل من حيث التّفسير والمعرفة كذلك؛ أي إن تفسير أي شيء آخر يتطلب فكرة الجوهر، ومعرفة أي شيء آخر تقتضي معرفة الجوهر، وان وجود أي شيء آخر يتوقف على وجود الجوهر"[13]، فما بالك وهو كركن أساسي غير موجود في الرّباعية السّابقة، فضلا عن ان المثالية بمدركاتها العقلية ومنظومتها في تقرير الابستومولوجيا قد أكدت على (الادراك) "والواقع فأن إلغاء الادراك يعني قطع علاقة الذّات بالعالم، تغدو الذّات بذلك برجا أصم الجدران لا نوافذ له"[14]. من هنا ندرك أهمية الإدراك وتأصيل تركيبة المفهوم المجتر من الواقع الخارجي ذاته.

الجسد وإشارته إلى ضرورة وجود العلة:

إن الانطولوجيا سرعان ما تكشف لنا بعد أن تكشفت بمحاورها السّتة السّابقة، أن الجسد معلول، فقير محتاج إلى علة، وهذا الأمر سيؤدي به إلى البحث عن ضرورة اللّجوء إلى مصدر كماله الذي يكون قادرا على اجابته في اشد الحالات تأزما، وتلبيته لنداء الخلود الذي يرتجى أمام زواله كقوام (جسدي)، الأمر الذي يفسر الكثير من الحضور والتّشبث في (الآن) خوفا على (الانا) وبشكلها الجمعي (النّحن) من الاندثار أو الانزواء في أقبية الزّمكان ما بين (الماقبل والمابعد)، ليس وفقا لمقولة (كانط) في سياقها المجرد، وإنما على وفق تنميطها المتحيز (الصّوري) كما عند هوسرل أو هيدجر أو باشلار (السّير الحتمي نحو العدم)[15]. وعليه قد أوجد الجسد بوصفه موجودا انطولوجيا ينظر إليه من كل الجهات (من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحتهم)[16]، جسدا آخر غير جسده المتحيز الزّمكاني، جسدا لا يعرف الحدود في البقاء ورافضا لحتمية الواقعي مستبشرا إزاء ذلك المجرد. الخارج عن الرّؤية التّقليدية. تماما كالرّياضيات التي جعلت كل الحدود المتناهية قابلة للانفتاح على اللّانهاية، وبالرّغم من إمكانية الامتداد (تراجعا: الماقبل) و(تقدما: المابعد) إلى ما لانهاية، يبقى الجسد البديل (المزعوم) ذا طبيعة حدية ومتناهية بالضّرورة المشروطة بالمشيئة والإرادة الإلهية.

وهنا يكمن الإشكال عن الذي تمثله أنظمة (الجسدانية) في بنية من القيود والتّشيؤ. مقابل ترفع الذّات الإلهية عنا، إشكالاً يضع معارف كثيرة كالعقائد والإلهيات والفلسفة والطّبيعيات والفن وغير ذلك[17]، الإشكال يفتح شهية الجسد في مداولة ذاته بذاته، انه يضع نفسه على طاولة الحوار، ويخاطب كل منهما جدليته في المحدودية (الفناء) وفي عدمها (البقاء). الجسدانية بمفهومها الانطولوجي أشارت إلى الجسد لان يفكر في عينه، في ذاته، وأي سؤال يطرحه المسؤول وأي جواب يجيبه السّائل، انه بمنزلة العطب الذي يصيب (الرّوبوت - repot)، فيضطرب فيه كل شيء، وعلى فكرة فالرّوبوت جسد، وهو إشكالية قد نوفق للحوار عنها في مقال لاحق إن شاء اللّه تعالى.

في الحال الذي يشير المرء إلى جسده على انه ذاته، أو يمثل ذاته، فانه يبغي تأكيد انطولوجيته، يريد التّثبيت على فعل وجوده، أمام انزياحات الفناء، التي تعددت مظاهرها؛ الأمر الذي دعا لعدم اكتفاء الذّات بالجسدانية ممثلا لها، فقد جعلت لها دوال أخرى تشير إلى مدلولها، وتحقق في الوقت ذاته استمرارية بقائها، كالصّورة في تشبيهها الجسدي بوصفها هوية صورية شكلية، أو كالتّسمية في تجسيدها المتمثل، بوصفها هوية لغوية[18]، وهكذا الكثير من الهويات التي سنعرض لها في هذه الدّراسة، كالهوية الافتراضية والهوية الهولوغرافية وهوية الأجساد الآلية، وغير ذلك. وفي الحقيقة إن مجموع هذه الدّوال هو الذي يشكل حقيقة الذّاتي والجسدي، سواء أكان ذلك بجعلهما حدا واحدا من دون تمييز في ما بين كل منهما أم مع التّمييز. والحالة الأولى تنظر إلى ارتباط الدّوال بالمدلول في أنظمة واقعية مرتبطة بالمحدود والنّسبي، والثّانية تنظر إلى انفصال الدّوال عن المدلول تأكيدا لحتمية الانفصال التي تؤكد بدورها ضرورة اللّجوء إلى (مطلق). والسّؤال الملح هنا: لماذا هذا اللّجوء؟ ألسّنا نرى أن لهذا اللّجوء ثمة متطلبات يكون أهمها إثبات وجود (المطلق) ذاته، وهذا هو مركز النّواة في استقرارها الثّاوي في جوانيات البحث الانطولوجي، بل وهو مبرر وجوده.

الجسد وتشخص السّؤال الانطولوجي.

لقد ذكرت في ما سبق أن (المطلق)، (الواحد)، (واجب الوجود ومصدر باقي الوجودات)، الذي صير نقطة ارتكاز الميتافيزيقي في رحلته الفكرية الطّويلة: انه اخذ يشكل الأنموذج في التّساؤل وفي التّجربة اليومية للإنسان الأعتادي، تلك التي كان أكثر ما يشغلها هو التّأمل في طرفي المعادلة، (الحياة والموت)، (الوجود والعدم)، (البقاء والفناء)، (الإثبات والنّفي)، (أكون أو لا أكون)، وكأن المحفز لهذه القضية الكونية ليس الطّرفين اللّذين ذكرتهما فحسب، وإنما ثمة تساؤل مجاور هو الذي يرسم خطا متوازيا في جسد القضية حتى يسبقها أحيانا ويتعداها أحيانا أخرى، وهو الذي يؤكد ارتباط السّؤال ذاته ببنية الفلسفة، حتى قبل أن تكون هناك فلسفة."لذلك كان من حق كل عاقل ان يشرع في طرح أسئلته التي تقلقه وكأنما لم يجب عليها احد من قبله"[19]، وهي المرتبطة في مركزها الثّابت ذلك (البقاء) السّرمدي الأبدي، أين (أنا - نحن) قبل الجسدانية المتغيرة، وأين (أنا - نحن) بعد الجسدانية المتغيرة. وكأن الانطولوجيا في الوقت ذاته الذي تقرر فيه أن الجسد هو بوابة الدّخول إلى عالم (الفناء)، تقرر كذلك انه بوابة الخروج إلى عالم (البقاء). غير أن الذي يدعو للحيرة أكثر من ذلك بكثير، وهو أن الانطولوجيا كمؤسسة فكرية بالوقت الذي تؤكد فيه على الموجودات بما هي هي، وتغرق النّظر في ذلك كثيرا، تصف وجودها ووجود موجوداتها التي اشارت إليها في تنظيراتها على أنها مسلسل طويل من العدم المتكرر أو حلقات متتالية من الفناء المتصل، وان هذا الوجود في مسير ابدي لمغادرة النّسبي والعود من جديد للجوء إلى (مطلق)، يجمع طرفي المعادلة ذاك بوصف (ماضي تام). مع انفتاح لا حد له لتوصيفات (الماقبل والمابعد) في الوقت ذاته الذي تنتفي فيه كل اشارات الزّمكان والذّوبان في حضور اللّامتناهي بلا جسدانية مقيدة، وناقصة، وحينها فقط تنهار الانطولوجيا، لانهيار الكثرة والتّعدد، ليس لأنهما خواص النّسبي والمصور أو المتشكل وإنما لأنهما خارج بنية (المجرد).

وفي عودة إلى ارتباط التّساؤل بالفلسفة، حتى قبل أن تكون هناك فلسفة سنجد أن القضايا في حقيقة أمرها ترسم في ثلاثة خطوط: يشكل الأول منها طرفي المعادلة في (البقاء/الفناء)، والثّاني منها يتمحور في (الماقبل) و(المابعد)، ما قبل (البقاء) وما بعد (الفناء)، أو لنقل انه خط موازٍ تكون فيه الجسدانية حلا وسطيا، أو هي تحتل مكانا وسطانيا، له بداية وله نهاية، بدايته هي التي تؤكد حضوره في المشخص والمعين، ونهايته هي التي تؤكد انصهاره في ساحة التّجريد الكلي على الرّغم من كونها ساحة تظل فيها الذّات مقولبة في حدود جسدية أرحب من هذه الحدود التي شكلت مبحث الانطولوجيا بمنهجيته المثالية. ولعل الذّات بين الجسدي المقيد، واللّاجسدي: ذلك الجسد الأرحب، هي التي حققت انطولوجيتها بذاتها، لعقدها فسحة من التّفلسف حتى قبل وجود الفلسفة"ذلك انه بالرّغم من شمولية السّؤال الفلسفي فان له قاعدة شخصانية وفردانية. وبالتّالي فان الاجوبة المتوقعة يريد ان يحصلها السّائل كما لو كانت هي أجوبته الذّاتية، اكتشافاته. ثمة معاناة ذاتية وسرية هنا في هذا السّياق. إذ إن السّؤال الفلسفي ليس معرفيا بمعنى الكلمة، ليس طلبا لمعلومة معينة يضيفها المرء إلى ذاكرته من المعلومات والمعارف الأخرى، بل طلبا لتلك الحقيقة التي تخصني انا وحدي،{...} ولو لم يكن هناك ذلك الإلحاح والهم لان يحصل السّائل على تلك الحقيقة التي تخصه أو تهمه وحده، لما أمكن القول إن الحقيقة الفلسفية هي حقيقة وجود، أنها ما يمكن أن تحقق لصاحب السّؤال ما يحس انه يعادل كينونته"[20]، فإذا كان (الجسد) يعني الوقوف على عتبتي مدخلين متناقضين (بقاء- فناء)، فان (العقل) مع اشتغالاته قرر وجود عالم اسبق لهذا (البقاء: الحياة) وعالم لاحق (للفناء: الموت)، وذلك بطرائق استنباطية وان تعددت إلى قياس أو استقراء أو تمثيل، وان الذّات دعت للوقوف على باب الكينونة وذلك لارتباطها بالسّؤال المتفلسف ارتباطا أعمق واشمل وأعظم التّحاما بصميم الذّات، ومن هنا"يكون انزياح السّؤال أو منعه أو استبعاده قد يساوي منع الموجود عن تحقيق وجوده"[21]، أي أن في ارتباط السّؤال بالفلسفة صارت الفلسفة، والفلسفة الانطولوجية على نحو يحقق التّأمل في العلة والمعلول، والمجرد والنّسبي، واللّاجسدي والجسدي، اللّامرئي والمرئي، بواقع يستحيل فيه إنفكاك الكينونة عن الكائن، سواء أكان ذلك تحت أنظمة الدّلائلية أم لا، سواء أكان ذلك تحت سلطة اليقين أم لا[22]؛ بمعنى أن الذّات، أو الانا أو الكينونة، لم تجد لها طريق آخر سوى الفلسفة للإجابة على ما يحقق الوجود وما به يكون، وكأن (ديكارت)، لم يأت بشيء جديد (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، وفي منطق الألفاظ وتبديلها يصح أن نقول (أنا اسأل إذاً أنا موجود)، على القدر الذي ارتبط فيه السّؤال ببنية الفكر، إنها نوعا من الجدل بين كليهما وقد قيل قديما (مفتاح العلم السّؤال).



[1]. ينظر: د. عبد المنعم الحفني، المعجم الشّامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 2000، ص 124. وهو يذكر أن (الانطولوجية): (ontologism) مذهب للفيلسوف الايطالي (جيوبرتي) (1851م)، والانطولوجية الواقعية تعود إلى (نيقولا هارتمان) (1882 – 1950 م)، وهنا يجد الباحث ثمة مفارقة عظيمة سنحاول أن نقف عندها وهي تتعلق بموضوع هذا العلم (الانطولوجيا) أي (الوجود): الذي لا يحتاج إلى تعريف لأنه بديهي التّصور، وما كان كذلك كيف جاز أن يكون موضوعا (انطولوجيا)، ونحن نعلم أن بنية المعرفة أساسا أقيمت على كشف المجاهيل أو غير المعرفات، فما الحاجة في البحث عن ماهية الوجود، وهي لا تحتاج إلى إثبات ؟ وباتفاق عام عند الفلاسفة.

[2]. الطّوبوغرافيا: استعمال مجازي يؤكد شمولية الفكر المثالي الذي لا يمكن تحديده لا مكانيا ولا زمانيا، والطّوبوغرافيا هي العلم الذي تصدى لوصف أو رسم الأماكن وسماتها السّطحية من جهة جغرافية، ينظر: هتشنسون، معجم الأفكار والأعلام، ت: خليل راشد الجيوسي، دار الفارابي، ط1، بيروت-لبنان، 2007، ص 298.

[3]. واحدية: وحدوية: احادية: هي نظرتنا إلى الوجود التي تتصف بتجريدها العقلي، أو التي تصف ما هو مجرد ممكن الانطباق على ما هو مادي، بمعنى ان هذه النّظرة تقول"بوجود جوهر واحد فحسب، أو عالم واحد، أو ان الواقع الخارجي (واحد) بمعنى ما، اي انه لا يتغير ولا ينقسم ولا يتمايز، فمثلا المذهبان المتعارضان القائل احدهما بان كل شيء عقلي والقائل الآخر ان كل شيء مادي، ما هما إلا صورتان فجتان للتعبير عن الواحدية، وكلاهما يعارض الذّوق الفطري في قوله بالثّنائية المؤلفة من العقل والمادة (...) وهما احق بان يطلق عليهما المثالية والمادية على التّوالي"ينظر: فؤاد كامل،و جلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، دار القلم، بيروت - لبنان، د.ت، ص 534.

[4]. الثّنوية: اي مذهب فكري يقسم كل شيء بطريقة أو بأخرى إلى مقولتين أو عنصرين، أو انه قد يستمد جميع الاشياء من مبدأين، أو انه يرفض ان يسلم بما يزيد أو ينقص عن جوهرتين أو نوعين من الجوهر، وعلى الرّغم من ان المذاهب الثّنائية لا بد بطبيعة الحال من ان يثبت أصحابها صحتها بالحجج العقلية، إلا ان ما يؤدي ببعض الفلاسفة الى الثّنائية هو الدّافع الذي يحفزهم الى تنسيق صورتنا عن العالم وتبسيطها، للمزيد يراجع: فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 161.

[5]. فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 471.

[6]. كثيرا ما نحسب أو نعد التّاريخ كواحد من العلوم التي ارتبط وجودها بوجود العقلانية، وكثيرا ما نحسب أن الاخيرة هي المحفز لظهور التّاريخ وغيره من العلوم، غير انها جاءت متأخرة في الظّهور على مسرح الوجود، فقد ارتبطت مع الكتابة، تماما كما ارتبط التّاريخ بذلك، غير انه جل ما يقدمه هو تقصي الحوادث عودا أو رجوعا الى بدايتها التي انطلقت منها، الامر الذي يفسر ارتباطه بالماضي دائما، ليفسر ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وذلك من خلال تعليل تاريخي، أو اساس منطقي يُكشف فيه ما السّبب أو ما علة ظهور الظّاهرة. ينظر: د. جميل موسى النّجار، دراسات في فلسفة التّاريخ النّقدية، دار الشّؤون الثّقافية العامة، ط1، بغداد، 2004، ص 13-23.

[7]. د. محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، دار المعارف، ط5، مصر، 1967، ص 219.

[8]. ان انطولوجيا الجسد أو الوجود بالاساس لم تنظر الى (الماقبل)، و(المابعد) بل نظرت الى (الماهو)، وهي وفقا لهذه النّظرة تؤسس نظاما من الجدل غير متحول ولا متبدل، يستمد رسوخه وثبوته من جهة النّظر الى غاية هذا الوجود الذي تسبب به الواجب له، خارج حدود الزّمكان الذي وضعنا حدوده نحن على وفق معايير نسبية هي في الاساس دليل نسبيتنا نحن، (فما من شيء كان فما قبله، وما من شيء كائن فما بعده).

[9]. قال تعالى في كتابه الكريم: (إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٌ فَقَدۡ مَسَّ الۡقَوۡمَ قَرۡحٌ مِّثۡلُهُ وَتِلۡكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ النّاسِ وَلِيَعۡلَمَ اللّهُ الذينَ آمَنُوا۟ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ)، في سورة آل عمران المشرفة، الآية رقم (140).

[10]. الباحث يود الإشارة هنا إلى نوع من المغالطة في مفهوم المقولات العشرة الارسطية، فبالوقت الذي يفترض ان تكون كلها مقولات للعرضي، نجد أن أولى تلك المقولات هي (الجوهر). والمتطلعون يعرفون أن الجوهر مقولة ذاتية وليست عرضية، فالجوهر هو الموجود في موضوع، والعرض هو الموجود لا في موضوع، والحقيقة هي إن المقولات في معيار تغيرها وتبدلها تسعة، إذ ليس في الذّاتي ثمة تحول أو تبدل؛ لأنه هو هو في كل مكان وزمان، أما الذي يتغير فيه فليس هو بما هو جوهر، وإنما هو بما هو عرض، وعليه فليس من حد فاصل فعلا بين الإنسان ومفاهيم الزّمكان، أي ليس ثمة ما يتصف بأنه (قبل وبعد) نظرا للتحول وللتغير في الإنسان كجوهر عدا عرض الجسد وما يلحق بهذا العرض.

[11]. يراجع: فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 466-472.

[12]. ذكر الباحث أن المفاهيم (شأنية) الحلول، وذلك لأنها اعتبارية، فهي تحل في الذّهن حلولا دون الإقامة، فهي ليست كالمواد الخارجية التي من شأنها الحلول والإقامة كالجسد الخارجي مثلا. ينظر احمد جمعة، الوعي الجمالي - دراسة في التّطبيقات الشّكلية البصرية، دار الأصدقاء، بغداد، 2009. وكذلك: احمد جمعة، المنطق منهجا نقديا - دراسة في قراءة الشّكل الفني، بيت الحكمة، بغداد، 2010.

[13]. الجوهر في الفكر المثالي القديم يعني جنس الأجناس الذي لا جنس فوقه أبدا. القول المقتبس لأرسطو، وهو يربط كل ما يتعلق بالمعرفة والتّفسير والوجود بالجوهر. ينظر: فؤاد كامل، وجلال العشري، الموسوعة الفلسفية المختصرة، مصدر سابق، ص 466.

[14]. ينظر: مطاع صفدي، نقد العقل الغربي-الحداثة وما بعد الحداثة، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، 1990، ص 128.

[15]. القبلي والبعدي ذهني عند (كانط) اما عند الظّاهراتيين فهو مرتبط بالأشياء الخارجية وصورها. بمعنى أن فكرة الخلود التي سعى الانسان ومنذ القدم الى تحصيلها إنما هي فكرة تستدعي البحث عن ما قبل هذه النّشأة الجسدية وما بعدها، ولان القبلي والبعدي عند (كانط) لم يكن مرتبطا بالاشياء الخارجية وانما بالمفاهيم الذّهنية (النّومينات والاسكيمات) فاستبعدتها، فضلا عن كونها نمطا من الاستدلال المغلوط، إذ ليس ثمة شيء لم يأت عن طريق الخبرة، أما الحيز المرتبط بالاشياء عند هيدجر أو باشلار، فهو ينظر الى وجود الاشياء عينها لا إلى تصوراتها، أما عن مقولة القبلي للفيلسوف الالماني (كانط) فهي معرفة عنده بـ(المعرفة التي لا تأتي عن طريق الخبرة) وفي تقديري لا توجد معرفة ما إلا وهي مقرونة بالخبرة والغريب في الامر انه يقدم امثلة على استدلاله المغلوط فيقول (الشّمس تشرق من المشرق) وهذه معلومة احتاجت إلى تحصيل، وبالتّالي فهي جاءت عن طريق الخبرة. والمقام لا يسمح الى تفصيل المطلب فلسفيا ومنطقيا، لكنه استوجب الإشارة فأشرت إليها.

[16]. استعارة هذه الالفاظ لا علاقة لها بالتّشابة الشّديد مع الاية القرآنية المباركة، وان كانت الاية كاشفة عن تحقق النّظرة الشّمولية وامكان حصولها. اشارة الى شمولية النّظر الى الاشياء وهو نظر متحقق. بدلالة نص القرآن الكريم، (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَانِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡ وَلاَ تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَاكِرِينَ) الذي اشارت اليه سورة الاعراف المشرفة في الاية (17).

[17]. لان التّفكير في هذا المطلب أحال الموجودات على ثلاثة أنواع، أو لنقل ثلاث أفكار. فكرة (المرئي-المتجسد) في الموجودات الواقعية. و(اللّامرئي- المتجسد) و(اللّامرئي-اللّامتجسد) في الموجودات الماورائية، وواقع الحال يكشف لنا انشغال الإنسان طويلا في تقريرها كأفكار، حتى يمكننا ملاحظة ذلك، فالمعيار في مجمل تقريرات المعرفة كان منصبا حول تصنيف الموجودات بين حضورها الجسدي واللّاجسدي، وفي الغالب تكون هذه الأفكار أساسا لوجود المعارف، أو لنقل إنها كانت بمنزلة البذرة التي نمت فأصبحت بكل هذه التّفرعات المعرفية.

[18]. ارتباط الصّورة بالذّات وبالجسد ارتباط قديم جدا، لأنها تشير دائما إلى صاحب الذّات، حتى بعد أن يقوم فعل الفناء بإزاحته من ساحة الوجود، ولهذا السّبب ولغيره فضلت التّسمية في الكثير من الشّرائع فالاسم الذي يلحق بالأبناء بمثابة الحضور الجنيولوجي فيهم، ما داموا في ساحة الوجود، لان التّسمية ستبقى متداولة بعد رحيل (الذّات).

[19]. مطاع صفدي، نقد العقل الغربي-الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، ص 20.

[20]. المصدر السّابق والصّفحة ذاتها.

[21]. المصدر السّابق والصّفحة ذاتها.

[22]. بعد ظهور القواعد الدّليلية في مجال المعرفة المتخصصة المسماة وفق الاصطلاح الفلسفي بـ(الانلوطيقيا)، انتقل الإنسان فكريا إلى محطات كبيرة وفاعلة، حتى أن انتقاله هذا يعني انتقال من اللّادليل إلى الدّليل، بمعنى أن حضور البرهان أو التّعليل أو التّبرير، اخذ يشكل الحد الفاصل بين الأيمان بالقضية - أي قضية - أو عدم الأيمان بها، بين التّصديق أو التّكذيب.

مفهوم الخطاب والخطاب الجسدي.


 يتبادر إلى الأذهان بصورة عامة بمجرد سماع لفظ (الخطاب) توجهنا إلى ذلك المفهوم الأبرز المتداول كثيراً في ممارساتنا الحياتية اليومية. الذي نستطيع أن نصفه بأنه بشكل أو بآخر مرتبط بالمقاصد اللّغوية، سواء أكان على مستوى المشافهة والحوار أم على مستوى النّصوص الكتابية، وهو ليس كذلك، وإن كانت في هذه الدّعوى ثمة فوارق تفصل ما بين المحكي المسموع وما بين النّصي المقروء، فان إحالة تبادر الذّهن نحو مفهوم الخطاب كثيرا ما ترتبط وبنحوٍ متساوٍ بين كليهما، نتيجة لارتباط المفهوم أصلا بعلاقات التّواصل والتّفاعل الخارجي مع (الآخر)، وهي لا تكاد تنفك بالفعل عن ممارساتنا الحياتية اليومية. لكن هذا الاقتران الذّهني وان كان هو الذي يمثل حدود التّداول والشّائع إلا انه في حدوده الأخرى يقترن بالمعنى وبالصّورة وبالحركة وبالحجم والحيز الذي يحتله في الزّمان والمكان، بل ويقترن في كل شيء يمكن لحواسنا أن تصل إليه ولعقولنا أن تفكر به. إذاً فهو بهذا المعنى أكثر شمولية من تلك المقاصد اللّغوية (المحكية أو النّصية)، إنه يتعداها إلى أنماط من العلاقات التّواصلية غير تلك التي تلتزم ببنية اللّغة المجردة[1]. بل ويمكننا القول من خلال تقصينا له عبر دفق جنيولوجياه وبشكل اركيولوجي، بأنه في بادئ الأمر كان لا يمت صلة بهذه المقاصد اللّغوية، غير أن شيوع التّداول اللّغوي وتطور الدّراسات النّحوية والبلاغية وعلوم أخرى في الدّرس اللّغوي كالتّأثيل والتّعجيم، كان مسبباً في تبدل ارتباط الخطاب كمفهوم بمقاصد اللّغة ذاتها، حتى تحقق هذا الارتباط الذّهني بين الخطاب والمقاصد اللّغوية، وكأنه يمثل مسلمة شائعة. على الرّغم من انحسار الدّرس اللّغوي اليوم في أوساط نخبوية، وتراجعه أمام بلاغات أخرى أكثر فاعلية في التّواصل، كذلك التّواصل الذي يحقق نوعاً من التّلاحم الاجتماعي بين قوميات اثنولوجية مختلفة ومتعددة، من دون الحاجة إلى المقاصد اللّغوية واللّجوء إليها. إذاً فالخطاب (Discourse) واحدٌ من المصطلحات المعقدة التي ينفتح فيها التّأويل على جملة من المفاهيم ومجموعة من المقاصد، وما اللّغوية إلا واحدة منها.

الخطاب أكثر سعة من الأشياء؛ لأنه فيها ويتعداها. وهو جامع لكل الأفكار بل وقادر على نموها وتوليدها بصيغ أخرى، انه خلاصة التّفكير في ما لو كان إجمالاً، وإسهاب في التّفصيل في ما لو كان إمعاناً، يرتبط بالمجتمعات والأفراد، بالمعارف والشّرائع، وله القدرة على تحديد الهويات وبيانها؛ لأنه يأتي قبلها، هو الذي يحدد ما نكون عليه، ولا نحدد (نحن) ما يكون هو عليه، وان حدث؛ فذلك يستتبع نتائج معطياته. إذ لا شيء هناك آتٍ من العدم، وإنما هي نتائج إثر نتائج، وتجريب يستدعي قواعده في الأداء، الخطاب " هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به وهو السّلطة التي نحاول الاستيلاء عليها "[2]. وفي الوقت ذاته هو النّسيج المتداخل في كل شيء وفي معقوليات الأشياء كذلك، إنه مشكل الأنظمة السّتراتيجية، تلك التي تتخفى داخل البناء الاجتماعي، وهو الذي يروج لذاته على الرّغم من عدم قدرتنا على تحديدها. ليس لأنه من معميات الفكر وإنما لأنه لا ينفصل عن هوية الذّات الجمعية التي تنتجه، الأمر الذي يدعو إلى تعدد المفهوم وتشعبه لحدود تفوق التّصور[3].

إن أهم ما يميز الخطاب كحضور فاعل وفي كل المجالات بحسب تقصي وجوده ظاهراتيا، في مجرى شائك ومتصل بل ومتسلسل كذلك بشكل متتابع ومتلاحق في حدود لا نهائية، وعلى عمق متفاوت النّسبة بين تحولاته في ذاته بحدي (الماقبل والمابعد)، نجد أن أهم ما يميزه هو انفصاله عن كونه مجموعة قوانين أو محددات وتجرده عن الاكتفاء بزي واحد في حضوره الفاعل، إنه كالمنفلت اللّين الرّطب الذي نشكل به ما نشاء من أشكال، إلا انه يشكل ذاته بذاته ويؤكد حضوره في أنظمة التّداول، من دون احتياج إلى ظهور فيزيقي له؛ لان حضوره العمومي تطلب منه خلع خصوصيته وارتداءها لاحقا من قبلنا (نحن)، فنحن من نمثله ونحن من نتلبس به، انه أول أقنعتنا في التّخصص والتّميز والتّباين، وهو أول ما يكون حاضرا فينا على الرّغم من شدة التّخفي وسهولة انصهار الذّات (أنا) أو (نحن) فيه، إن تمييزه يقع بعد غفلة ظهوره القسري ذلك الذي لا فرار منه، وكشفه يقع تحت طول مرارة ومعاناة المتحرر تجاه المتسلط، من فرط ما اخذ يتحكم في الذّوات على الرّغم من أنها جاءت إليه تسعى في بادئ الأمر، إن للخطاب حضوراً مملوءاً بالمفاجآت؛ لأنه متبدل في أردية التّحكم فينا[4].

وان أهم ما يميز الخطاب كحضور فاعل كذلك، هو حضوره المتعدد في مجموعة من المعطيات التي تؤكد وجود دعواه على انه لباس العصر، أو لباس التّقدم، أو أي مسمى آخر، كالتّطور مثلا، أو كونه حاجة ملحة وغير ذلك، إلا أن هذه المعطيات بشكلها الشّمولي هي صنيعتنا، وعلى مر التّاريخ الممتد قدما في (الماقبل) أو المتلاحق استقبالاً في (المابعد)، فـ(نحن) نظفي عليه في حضوره المتخفي أبعادنا الفكرية التي يمكن حصرها في المحاور الآتية: أولاً: البعد المنطقي أو لنقل الابستمولوجي بشكل أعم؛ الخطاب يعلن عن حضوره وسرعان ما نعلن أنه كالمقولات المتعالية (Transcendental) على المعرفة، انه قيمة فوقية تتصف بما يتصف به المتناسق والجميل والنّافع، إننا نمنحه وبشكل (جمعي) مقومات وجوده فينا، نختط له طريقاً معبداً ذا نزعة مثالية، حتى يغدو نتيجة استقبالنّا المعرفي له وكأنه مما يستحيل الانفكاك عنا؛ وذلك من شدة ما تأملنا فيه، وسرعان ما يتيح لنا توالدّ الأفكار، ويجبرنا على الالتّزام به لأنه أخذ يمارس وبشدة دوره المتسلط علينا وهذا ثانيا: البعد السّلطوي، إذ نمنح الخطاب قدرة على التّحكم والهيمنة، من خلال تأسيس جملة من الضّوابط الالزّامية التي تتضح بشكل تدريجي، ولا يخفى على المتطلعين ما (توفره هذه الطّريقة للخطاب من فرصة ادعاء (إرادة المعرفة) واحتكارها، على اعتبار أن الحقيقة محجوبة ومكتومة ومصادرة. ولكن الخطاب وهو يقوم بهذا الادعاء فانه يمارس حجبا وكتما وإزاحة؛ ذلك أن السّلطة التي يُدّرعُ بها تتمتع برصيد هائل من القوة والهيمنة) [5]، تدعوه إلى ترسيخ برامجه السّلطوية ورقابته الدّائمة وعنفه المتواصل. وهنا لا يكون الخطاب سوى أداة للتعبير عن إرادة جماعة تسعى إلى فرض خبراتها وتصوراتها بما تتمتع به من حضور وسلطة. أما البعد التّداولي: وهو ثالثّا، فإن الخطاب يسعى دائما لاكتساب الموضوعية التي تمثل جميع الأحداث، ومن خلال بحثنا نحن كمجموع عن المشتركات الرّابطة في ما بينها، وكأننا نقوم بعملية صوغ للمفهوم الكلي بحثا عن أجزائه. حتى يتداول الخطاب سريعاً في أوساطه الاجتماعية، وهنا يتم دعمه بأكثر من وسيلة وبأكثر من طريقة، ولا يبدو التّداول أمراً طارئاً، وإنما هو في حد ذاته (حدث). تماماً كما الأقوال في أنظمة التّداول تعد (حدثاً) ؛ أليس الخطاب كمصطلح: (يستخدم للإشارة إلى مجموعة أقوال أو أحداث ذات صلة بعضها ببعض)[6]، حتى وان كان تداولنا لها هو السّبب في وجودها، والموضوعية التي انطلق منها مسبقا تؤكد عدم خصوصية أي أحد منا في تداوله، وإنما يقوم الجميع بإشراك نفسه في تداول الخطاب، سواء أكان ذلك بقصد أم بغير قصد؛ لان " العالم الذي أحوزه في أصل نظرة الآخر ليس خاصا إلى هذا الحد{حتى وان أصبحت} في نفس اللّحظة شبه متفرج تجاهه"[7]. وهنا ينفتح التّداول في رقعة المكاني ودفق الزّماني، ليتسرب كما لو أنه (الهواء) إلى الجميع، لكن لكل منا حضوره وفعله فيه.

إذاً فالأبعاد التي تجسد الحضور المتخفي للخطاب هي: البعد المنطقي، والبعد السّلطوي الالزّامي، والبعد التّداولي الانتشاري، أو الذي يحقق انتشاره. إن الخطاب ارتبط في حضوره ومنذ البداية كمحدد لتوجهات الإنساني، أو لنقل انه محدد لتوجهات الجسدي، وهذا الارتباط الذي يثير القلق؛ ليس لأنه من جهته التّاريخية يعود قدما إلى المرحلة الابتدائية الأولى، (الماقبل)، وإنما لكونه يعود إلى ذلك التّشيؤ الذي اتصف بطابع (بايولوجي) من جهة، وطابع (جنيالوجي) من جهة ثانية، أي أنه بعوده المؤشر إلى لحظة وجوده في الخط المتراجع زمانيا يؤشر إلى تلك اللّحظة التي تولدت فيها القدرة على انفصال العضوية الحية عن الشّيئية المادية الجامدة، والخطاب على هذا توأم (الجسداني) ما دام هو نامياً حساساً متحركاً بالإرادة، انه الموجود بلا شيئية قدماً، والمتسابق بلا خصوص يحدد فيه الهوية لحوقاً، وكأنه ما يمثل الامتداد في شرعنة الانقياد، والتّوأم الذي يحرك الوليد ولا ندري لماذا هو يتحرك، انه يثير فيه التّفكر ويدعوه في الوقت ذاته إلى الاستغراق في ذاته وفي الآخرين وفي الأشياء وما يجاورها، انه يدعو إلى كل شيء وليس كل شيء إلا في دعوته.

الجسدي في وجوده الفاعل والمنفعل في طبعه محبٌ لمشاركة الآخر، ولوجوده، ولولا دفع هذه المحبة لما كان هناك خطابٌ أصلا، أن يعني بقائي بمفردي في هذا العالم (وجودا) فهذه مسألة يصعب إقامة البرهان عليها أو إقامة الدّليل، لان وجودي لا شك في أنه مرتبط بوجود الآخر، وهذا الأخير على قدر كثرته وتعدده وتنوعه (عدداً وعرقاً وجنسانيةً) وبما هو جسداني كذلك تطلب أن يكون هناك خطابٌ في ما بيننا (أنا) و (هو). وبحسب المنهج الاستقرائي فان الجسدي في جسدانيته هو في حد ذاته مفردة خطابية، أو أن له القدرة على نشوء النّظام الخطابي الأول. خاصة بارتباطه مع الفعل وتأويل هذا الفعل، حتى تكونت لدينا جردة طويلة بالأفعال ومعانيها أتداول فيها مع الآخر، وافهمه ويفهمني، وبالإمكان أن نقول إن في هذا الخطاب الاشاري الجسدي تمكث نقطة الشّروع الأولى وانطلاقة الخطاب إلى حيز الوجود على الرّغم من أنه وجود متخفٍ خلف نوازعنا وحاجاتنا، أنا من جهة والآخر من جهة أخرى، وهكذا بيني وبين المجموعة في توصيفها اللّغوي (نحن)، أو بيني وبين ما يماثلني في الجسدانية والجنسانية (هي)، على الرّغم من خلافات النّافر والغائر في ما بيننا كتوصيف مورفولوجي. إذاً فالخطاب العام والأول هو الخطاب الجسدي، وهو أول ما يحقق التّداول في لغة جسدانية، تكونت حتى قبل وجود الخطاب اللّغوي ذاته بعشرات الآلاف من السّنين الممتدة في عمق (الماقبل). على أن لا يفقد الإجمال هنا في طرحنا لأفكار نراها مناسبة لدعم الفكرة الأساسية وهي: أن الجسداني أول محفز لنشوء الخطاب وأن علة هذا النّشوء هي (الآخر).

إن اللّغة الاشارية الجسدية هي اللّغة الأولى، وأن الخطاب الاشاري لا يرتبط بقضايا سردية مفاهيمية، وإنما هو قاصر على الارتباط المباشر بما هو في محيط المشاهدات. الإشارة كوسيط تداولي جسدي (مكثف) بلاغي يحيل على المشار إليه، وهنا لا يكون الجسد إلا لغة خطاب حسية أو هي مرتبطة بما هو حسي، أو لنقل إنها غير منفصلة عمّا هو عياني أو مسموع أو ملموس... الخ، ثم إن التّعبير فيها لا يحتاج إلى تكلف وعناء كبيرين، وهكذا فالاستقراء العقلي يؤكد حضور الصّوت مع الإشارة لاستخدامه في زيادة التّعبير*، واللّغة الجسدية الاشارية ليست مما يكتسب؛ لأنها في حضور دائم مع حضور الجسدي، إذ يتيح هذا الحضور سهولة التّداول وسهولة التّلقي، والمعاني في الحوار الجسدي لا تتعدى حدود إشباع الملذات والارتواء منها (مرحلة صيد الحيوانات وجمع القوت)، الجسدي في هذه المرحلة مع انصهاره في النّظام الطّبيعي يكفي أن يكون هاجس النّوع هو المبدأ الذي يشكل أولى العقود الجمعية حفاظا على النّوع ذاته، جراء ما في الطّبيعة من تقلبات بيئية وكوارث مهددة له، غير انه ومع ذلك الشّعور الجمعي أدرك أن بقاء الجسدي مرتبط بشكل أو بآخر مع الجسد الأنثوي، هذا الجسد الذي يحقق إشباع الملذات والارتواء والحفاظ على النّوع، ومن هنا اكتسب علة مصدرية، تشير إلى سلطة الوجود بالقدر الذي تشير فيه إلى دفق البقاء. والبقاء هنا عامل إنتاجي يقف الكيان الأنثوي في جهة قبال العامل الاستهلاكي، إذ تقف الطّبيعة في الجهة الأخرى، وهي تهدد بحصول كوارثها البيئية. إن انقراض (النّوع) أو (الموت) من أيسر معادلاتها تطبيقا. سرعان ما تحول الجسد الأنثوي إلى محل تمجيد وتعظيم في بنية الخطاب الجسدي، الأمر الذي يتطلب منا تحديدا لمفاصل ما تقدم بنحو يمكننا الحصول على نتائج الاستقراء، قلنا: إن الخطاب الجسدي أول ما وجد من خطاب وانه توأم الجسدانية ذاتها، وان هذا الخطاب لم يكن متوقفاً على علة في حدوثه عدا علة وجود (الآخر)، ولولا وجود الآخر لما أمكن أن يكون هناك خطابٌ أصلاً، وقد فُعّلَ هذا الآخر في أنظمة خطابية تشير إلى بقاء المجموعة؛ لان ما يمثل (الذّاتي) لم يكن له وجود بعد[9]، وبشكل متدرج تم وبمثابة الإدراك المتأخر انتخاب الجسد الأنثوي ليكون سبباً في البقاء على النّوع، غير أن هذا الانتخاب دالٌ على أن نظام الخطاب قد تطور؛ لان التّعامل مع الجسد الأنثوي على انه واهب النّوع يعني إحالتّه على مفهوم كلي يمثل الجسدانية كلها، وهذا الحساب والتّدرج من الإشارة الجزئية إلى معناها الطّبيعي المتلاحم، ثم إلى المفهوم الكلي تمثلاً في الجسد الأنثوي يعني أن اللّغة الجسدانية قابلة للنمو في أنظمة التّداول على الرّغم من أنها تمثل البداية فيه. في كتاب للباحث[10]، عن مراحل الوعي الإنساني وأهمية الوعي الجمالي، لأنه المتصدر في سلسلة تطور الوعي ذاته، تم التّأكيد في محله، بأن الوعي الجمالي هو أول أنواع الوعي، إلا انه ليس بأول أنواع الخطاب، لأنه قد ثبت هنا أن الخطاب الجسدي هو أول عتبات تطور نظام الخطاب والوعي فيه. إلا انه (أي الجمالي) هو أولى الممارسات في تفعيل الخطاب الجسداني، وكأن هذا الوعي جاء متمماً لاشتغالات الخطاب. فقد دفع الاشاري في آليات التّداول إلى توظيف (الصّورة) بحثاً عن معادل موضوعي بين الجسدي المصور والصّورة المتجسدة، إلا أن هذا التّوظيف- وبرصد ظاهراتي للمنجز البدائي في آثاره الكهفية- لم يتجاوز حدود إشباع الملذات والارتواء منها، وبقي الهاجس مرتبطاً بصيد الحيوانات وذكر النّوع في أجساد مصورة على جدران الكهوف، وتمجيد الكلي في بنيات شكلية رمزية (الآلهة الأم) [11]، وهذا يعني أن نظام التّداول اعتمد على الخطاب الجسداني وعلى خطاب الصّورة الجسدانية.

إذاً فالجسد في نظام الخطاب قد تطور إلى وعي جمالي بعد أن كان التّداول مكتفياً بوسائط إشارية، أو لنقل إن التّعامل مع (الصّورة) قد دفع إلى وجود خطاب آخر وهو الخطاب الجمالي. ومن هنا تبدأ الإشكالية في الخطاب؛ ليس لأنه يستلزم في نظامه ميكانزمات بناء الصّورة فقط، بل لأنه كان وما زال يستلزم حضور الجسدي وعلى مر خطي (الماقبل والمابعد)، ولان الخطاب الجمالي الجسداني فتح الباب لكل أنواع الخطاب الأخرى لان تأتي على مسرح هذا الوجود بشكل متتابع، وبحسب الاستقراء أرى أن الفضل ليس في تكامل الجمالي في دعم او نشوء الخطاب الإنساني بما فيه من تنوع وتعدد، وإنما هو في الحضور المشترك لكل من الجسدي وصورته المتجسدة، حتى أنني أستطيع أن أقول بأنهما أخذا يشكلان في اشتغالهما المشترك غراماطولوجيا الخطاب الذي بقي مستمرا حتى هذه اللّحظة من دون توقف. وهذه الاستمرارية في حد ذاتها إشكالية أخرى تستدعي الإمعان والنّظر؛ لان الجسدي اخذ في حضوره يمثل سلطة عليا ليس من اليسير تخطيها في الجانب الابداعي الشّكلي الذي يستدعي حضور الصّورة، وكأنه ذلك الـ(غرافيم) او الوحدة الخطية التي تمثل الخطاب بالكامل، أو هو القيمة التيرمينولوجية لمفهومه. أو لنقل إن كل ما دون بعد الخطاب الجمالي الجسداني في ميكانزمات صورية، إنما هو يعود إلى تلك البداية الكهفية في تاريخ البشرية، فنحن مدينون لها ليس لأنها نقطة الشّروع الأولى فحسب وإنما لأنها قد شكلت (غرافولوجيا: Graphologie) الخطاب الذي اعتمد على حضور الجسدي بشكل أساسي.

كلية الفنون الجميلة - جامعة بغداد
2012

=====================================================
[1]. للمزيد عن إشكاليات الخطاب اللّغوي يراجع:
- Chris Barker, Dariusz Galasinski, Cultural Studies and Discourse Analysis: A Dialogue on Language and Identity- Cultural Studies, SAGE, 2001.
وللاستزادة يراجع كذلك:
- Chris Barker, The SAGE Dictionary of Cultural Studies, SAGE, 2004.
- Michael Payne, Reading Knowledge: An Introduction to Foucault, Barthes & Althusser, John Wiley & Sons, 1997.
[2]. ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ت: محمد سبيلا، دار التّنوير للطباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2007، ص9.
[3]. ينظر للاستزادة حول مفهوم الخطاب باللّغة العربية: محمد علي الكبيسي، ميشيل فوكو، تكنولوجيا الخطاب، تكنولوجيا السّلطة، تكنولوجيا السّيطرة على الجسد، ط1، دار سراس، تونس، 1993، ص18-22.
[4]. للمزيد حول مفهوم السّلطة في الخطاب وتداول اللّغة ينظر:
- Norman Fairclough, Language and Power- Language in Social Life Series, second printing , Longman, 2001.
[5]. ينظر حول فكرة إرادة المعرفة: ميشيل فوكو، نظام الخطاب، مصدر سابق، ص 15-16، وكذلك: عبد الرّحمن التّليلي: فوكو: الحفريات منهج أم فتح في الفلسفة؟، مجلة عالم الفكر، م 30 ع 4 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002، ص 22. وكذلك:
- Walter Privitera, Problems of Style: Michel Foucault s Epistemology - Suny Series in Social and Political Thought, SUNY Press, 1995.
[6]. أيان كريب، النّظرية الاجتماعية – من بارسونز الى هابرماس، ت: د. محمد حسين غلوم، عالم المعرفة، ع 244، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999، ص 245.
[7]. موريس مرلوبونتي، المرئي واللّامرئي، ت: د. عبد العزيز العبادي، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربي، ط1، بيروت، 2008، ص108.
* إن الإشارة الجسدية في منظومة الخطاب، وبتفعيل الصّوت المحاكاتي لما هو طبيعي في الخارج، ستتطور شيئا فشيئا حتى تكون اساسا للّغة المقطعية الصّوتية في ما بعد.
[9]. في الخطاب الاشاري الجسداني لم يكن هناك ما يدعو إلى حضور مفهوم الشّخصي أو الشّخصاني، الذي يترتب عليه تفعيل الذّاتي في رؤية مستقلة، لان البعد الاشتغالي الذّهنوي لم يكن بعد متطلعا على سحر التّصورات الكلية، تلك التي تقوم باختزال الكون والوجود في كلمة مجردة عن التّوصيفات الجزئية الطّبيعية، تلك التي كان الإنسان في خطابه الجسدي غارقا بها، ولكن وعلى الرّغم من ذلك فان للفرد وليس للذات أهميته الكبرى لأنه يمثل المجموعة، ولعل هذا القول لـ(دافيد لوبروتون) في كتابه (انثروبولوجيا الجسد والحداثة) يؤيد ذلك: " إن الجسد يوجد في قلب العمل الفردي والجماعي، وفي قلب الرّمزية الاجتماعية " ص5.
[10]. احمد جمعة، الوعي الجمالي- دراسة في التّطبيقات الشّكلية البصرية، دار الأصدقاء، بغداد، 2009، ص43-77.
[11]. ينظر للمزيد: تانيا عبد البصير محمد، رسوم الكهوف- أنظمتها الشّكلية ومرجعياتها الفكرية- دراسة تحليلية، أطروحة دكتوراه فلسفة في الفنون التّشكيلية/ رسم، جامعة بغداد، 2005، بحث غير منشور.

الثلاثاء، 26 يونيو 2012

(العِلمُ) ، المفهوم والتفسير.




        ربما يشير العنوان إلى مطلب يتعلق بنظرية العلم  ،  وهي كنظرية تبحث في متعلقات العلم  ،  أو بماذا يهتم العلم  ،  لكني هنا أود أن أبين ما هو العلم أصلا . من خلال أفكار بعض كبار أهل المعرفة  ،  فكثير منا عندما يسأل عن العلم ما هو : يجد السائل فينا حيرة كبيرة  ،  وتخبط في تصوراتنا حول هذا المفهوم الذي يبلغ من البداهة ما يجعله غير قابلا للتعريف أو الحد  ،  ولأجل ذلك أحببت أن أبين وفي سطور مختزلة ما هذا المفهوم وما هو تفسيره  ،  لكن بطريق علمي ومقتضب.

        عند النظر إلى هذا المفهوم وتقصيه في أنظمة المعرفة المثالية  ،  يجد أي متطلع لطروحات المفكرين حيال هذا المفهوم ما يجعل منه محط غموض  ،  دون تفسيره  ،  وواقع الحال أن الحدود تستعمل لبيان ماهية الشيء  ،  دون إبهامها  ،  وبما أن المفكر المثالي يلتزم الحجة المنطقية  ،  لاسيما في شروط الحدود كما هي في كتب أو مؤلفات اغلبهم  ،  وفضلت أن أتماشى مع ما اشترطوه  ،  في مبحث التعريفات  ،  عندهم  ،  وحاولت أن استعرض المفهوم بشكل متسلسل اكرونولوجيا  ،  إلا ما عارض ذلك من تواز أو تداخل بين احدهم والآخر في المكان والزمان .

        يقول أفلاطون إن"العلم إحساسا أو حكما صادقا"أو"ظنا صادقا مصحوبا ببرهان".([i])  وفي هذين التعريفين نجد أن العلم معرفا عند أفلاطون ،  في كونه إحساساً أولاً ويتبعه الحكم ثانياً. وعلى أن يكون الحكم صادقا في المرحلة الثالثة. وهذه التتابعية لا تصلح لان تكون تعريف للعلم ،  هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار(قواعد التعريف)  المنطقية ،  علاوة على كونه(ظنا)  في التعريف الثاني ،  والمعرفة لا تبنى إلا على التصديقات اليقينية عادة. صحيح أن المعرفة الظنية يعتد بها في أكثر المسائل ،  إلا أن النتائج غالبا ما تكون يقينية. وبما أن التعريف في نظر الباحث يعد نتيجة ،  لذا يجب أن يكون يقينيا ،  لان  "الغرض من الحدود والرسوم التصديق" ([ii].

        قد يرى البعض أن مثل هكذا نقد أو مناقشة لا تصلح مع أفلاطون ،  الذي يعد من المؤسسين لعلم المنطق ،  إلا انه لا إشكال في مناقشة الآراء والأحكام معرفيا ،  كما انه لا عيب في أن لا يتوصل الإنسان إلى حد من الحدود ،  فهذا العالم الغزالي يقول عن العلم في كتابه المستصفي ، "يَعِسُ تحديده على الوجه الحقيقي لعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي ،  فإننا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه و إذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن حد الإدراكات اعجز لكننا نقدر على شرح العلم بتقييم ومثال" ([iii].

        والمهم في تعريف أفلاطون السابق هو عدم الشمولية ،  وأحد شروط التعريف أن يكون شاملا لما هو معرف ،  وعدم الشمولية تكمن في كون التعريف غير جامع للمدركات العقلية ،  التي غالبا ما يتوصل الإنسان إليها عن طريق أخر ،  غير طريق الإحساس فكأن المعرفة عنده حسية فقط. وبما أن أثاره الفلسفية تشير إلى وجود المعرفة العقلية في أبحاثه ،  فإننا نقطع بصحة هذا التعريف فيما لو كان مختصا بالموجودات الحسية ومعرفتها من هذه الجهة فقط. وقد عاكسه في المطلب أرسطو  ،  فإذا كان العلم عند أفلاطون يأتي من الإحساس الصادق فإن أرسطو يؤكد على أن العلم إنما هو صدق البرهان  ،  لما تميز به من أفكار منطقية.

        ولأنَّ الدرس المنطقي كان عند الفلاسفة العرب أكثر شمولية و أدق تشخصا ،  و تأكد أثارهم أو هي تشير إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا عظيما. الأمر الذي دعا لان تسير هذه السطور على تحقيق تعريفهم للعلم. فالأشعري: يعرف"العلم بما يوجب بمن قام به كان عالما"([iv])  وعند المناطقة هذا التعريف باطلا كذلك ،  أو تعريف للمبهم بمبهم غيره. لأنه قد وضع المشتق(العالم)  في حد المشتق منه(العلم)  ،  وهذا يحتاج إلى بيان ،  وإلا فمن لم يكن يعرف معنى أو(حد) (العالم)  ،  جهل التعريف كله ،  وهذه حجة الغزالي([v] ،  ولان من شروط التعريف أن لا يُعرّف المبهم بمبهم آخر بل يُعرّف بلفظ بيّن. كما أن هناك جملة من التعاريف يذكرها الغزالي ،  في أكثر من موضع ،  متناثرة في متون كتبه محك النظر و المنخول في تعليقات الأصول وقد أشبعت نقدا ،  وهذا يدل على رفعة الغزالي العلمية وهي:

العلم هو: ما يعلم به.
أو: صفة يتأتى للموصوف بها إتقان الفعل و إحكامه.
أو: تبين المعلوم على ما هو عليه.
أو: درك المعلوم.
أو: الإحاطة بالمعلوم.
أو: معرفة المعلوم على ما هو عليه.  

        وكانت حجته على التعاريف بالغة ،  نذكر منها حجته على التعريف الأول ،  في كون الحدود أصلا وضعت لغرض التوصل إلى بيان أو معرفة الشيء ،  ولا بيان في هذا التعريف. وقد عاود الغزالي لنقد هذا التعريف في كتابه(المستصفي)  و غيره ([vi] وما ذلك إلا لغرض التوصل إلى الحد الحقيقي للعلم. وبقية المناقشة الخاصة بالتعاريف السابقة الذكر سنعرض عنها لغرض الاختصار. والمهم أنها جميعها لا تصلح لان تكون تعريفا جامعا مانعا كما يعبرون في شروط التعريف المنطقية([vii].

        و أما المظفر ،  فيرى أن العلم هو"حضور صورة الشيء عند العقل"([viii] ،  وعلى الرغم من كونه يعد من أهل المعرفة بهذا المجال ،  إلا انه جعل العلم محصورا في(الصورة) . وحضورها في العقل شرطٌ من شروط التعريف ،  الذي يمكن أن يطلق على العلم ،  ومن الواضح أن الأشياء التي هي بمدار معرفتنا ،  لا تكون بشكل الجمع أو صيغته محتوية على الصورة ،  إذ ثمة أشياء لا صورة لها ،  والبعض الآخر من الأشياء وان كانت لها صورة إلا أنها غير مرئية. الأمر الذي دعا لان نحكم على هذا التعريف بوصفة غير جامع ولا مانع. ونلاحظ أن(الله)  تبارك وتعالى مثلا ليس بشيء ولا صورة له ،  و علمنا به تعالى لا يعتبر علما بحسب هذا التعريف ،  وهذا أمر لا يستطاع تقبله ،  ولذا فالتعريف الذي يقيده المظفر يكون جامعا مانعا للعلم الحسي أو المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس فقط.

        التعاريف المنطقية كثيرة ولا حصر لها ،  فمن خلال البحث والتقصي وجد الباحث تعاريفا أخرى منسوبة إلى الرازي أو المعروف بالقطب الرازي ،  وهو أن(العلم) : حصول نفس الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل. وبعضهم قال إن العلم هو : قبول النفس وانفعالها وتأثيرها بالصورة الحاصلة من الشيء. و أخر يقول : العلم هو انطباع صورة الشيء في الذهن ،  إلى غيرها من التعاريف([ix] التي لا تعد إلا فاسدة فيما لو راعينا الشروط المنطقية الخاصة بمبحث التعريف. ولكن هذا لا يعني أنهم ليسوا بمنطقيين. ولا يعني أنهم ليسوا بأصحاب معرفة. فلا يخدش ذلك أي شيء في مقاماتهم وعطائهم العلمي  ،  ولا يتصور البعض بأني ابغي التهجم على شخصياتهم العلمية  ،  أبدا ،  فأنا أود أن أوضح المطلب  ،  في انهم لم يعرفوا العلم  ،  وإنما وضعوا التعاريف هذه على سبيل وصف العلم ،  لا التعريف الذي يكون جامعا مانعا للمفهوم ،  فقد يُشْكَلُ على عامة التعاريف في كونها تناولت الجزئي دون الكلي ،  ولم يكن فيها حساب لمفهوم(العدم)  ولا حساب للمفاهيم الممكنة الوجود ،  ولا حساب لمفهوم المطلق إلى غير ذلك.

        هذا من جهة ومن جهة ثانية نجد أن المعرفة “لا تحصل بمجرد انعكاس الأشياء في الذهن – سواء أكان التصور ماديا كما يدعي الماديون ذلك ،  أم مجرداً كما يدعي أتباع الميتافيزيقيا – فإن انعكاس صورة الأشياء في المرآة لا يجعل المرآة عالمة بها ،  على اعتبار أن المعرفة تتحقق في حالة وجود وحدة بين المتصوِر(العاِلم)  والصور المنعكسة"([x](العاَلم) .

         و أما تعريف صدر الدين والعلامة الطباطبائي القائل بان العلم:هو“حضور مجرد عند مجرد"([xi]. فهو تعريف يشير إلى أن يكون الإنسان متصفا بتخليه عن المادة غير متعلق إلا بغيرها من الكمالات. فمقتضى حضور العلم للعالِم ،  أن يكون العالِم أيضا تاما في نفسه غير ناقص ،  من حيث بعض كمالاته الممكنة له. وهو كونه مجردا من المادة وهذا التعريف خاص لأهل الذوق والعرفان في تقدير الباحث.([xii] أما موارد نقده فهي“يرد على هذا التعريف انه لا يشمل العلم بالماديات بما هي ماديات ،  فإنها بما هي ماديات خارجة وفقا لهذا التعريف عن العلم والإدراك ،  ولان كون الله تعالى لا يعلم بالماديات بما هي ،  فهذا مطلب عجيب ،  وعلى اعتبار أن ما نريده من العلم هو إحاطة العالم بوجود المعلوم في أي مرتبة وجد فيها“([xiii].

        أما تعريف الشيخ محمد تقي اليزدي فهو“حضور ذات الشيء أو صورته الجزئية أو مفهومه الكلي لدى موجود مجرد“([xiv] ولا بد أن نضيف انه ليس من لوازم العلم أن يكون العالِم دائما غير المعلوم. و إنما من الممكن في بعض الموارد- كما في علم النفس بذاتها– أن لا يكون تعددا بين العالِم والمعلوم ،  وفي الحقيقة فانه في مثل هذا المورد تكون(الوحدة)  أكمل مصداق(للحضور) .

        يكتفي الباحث بذكر التعاريف السابقة ،  ويتبنى تعريف الشيخ اليزدي الاخير ،  لأنه تعريف جمع ما بين المادي والمعنوي. جمع بين المتشكل المرئي والمتشكل اللامرئي. جمع بين الحسي والمجرد([xv] ،  كما أن الباحث لا يعارض ما ذكره العلامة الشيرازي ،  وان كان الفيلسوف صدر الدين المعروف بالشيرازي يقول :"العلم من الحقائق التي إنيتها عين ماهيتها ومثل تلك الحقائق لا يمكن تحديدها إذ الحدود مركبة من أجناس وفصول وهي أمور كلية ،  وكل وجود متشخص بذاته ،  وتعريفه بالرسم التام أيضا ممتنع ،  كيف ولاشيء اعرف من العلم ،  وما هذا شانه يتعذر أن يعرف بما هو أجلى واظهر ،  ولان كل شيء يظهر عند العقل بالعلم به فكيف يظهر العلم بشيء غير العلم"([xvi].


 === الهوامش ===

([i]) . محمد محمود رحيم الكبيسي ،  نظرية العلم عند الغزالي ،  دراسة نقدية لطرق المعرفة ،  منشورات بيت الحكمة ،  بغداد ،  2002 ،  ص 25.

([ii]) . ابن سينا ،  التعليقات ،  تحقيق د. حسن مجيد العبيدي ،  منشورات بيت الحكمة ،  ط1 ،  بغداد ،  2002 ،  ص63.

([iii]) . الغزالي ،  المستصفي من علم الأصول ،  ط1 ،  مصر ،  1422هـ ،  ص 25.

([iv]) . الغزالي ،  المنخول من تعليقات الأصول ،  تحقيق محمد هيتو ،  دمشق ،  1970 ،  ص 36

([v]) . ينظر ا لمصدر السابق والصفحة.

([vi]) . ينظر:الكبيسي محمد محمود رحيم ،  نظرية العلم عند الغزالي ،  مصدر سابق ،  ص 20.

([vii]) . يذكر المناطقة جملة من الشروط وهي:1. لا يجوز التعريف بالأعم ،  مثل تعريف النحت بأنه فن ،  لان الفن اعم من النحت ،  والسبب في ذلك هو دخول الموسيقى والمسرح والرسم وغير ذلك. 2. لا يجوز التعريف بالأخص ،  مثل تعريف الإنسان بأنه طبيب أو مهندس أو فنان ،  لان الأخص لا يكون جامعا مانعا ،  فهناك إنسان وليس هو بفنان و طبيب. 3. لا يجوز التعريف بالمباين ،  مثل تعريف النحت بأنه حجر. 4. لا يجوز التعريف بالمبهم ،  مثل تعريف الممثل بما يكون فاعلا أو منفعلا. 5. لا يجوز التعريف بالدور ،  وهو على نوعين(واضح) كما في قضية البيضة والدجاجة مثلا ،  أحدهما متأخر أو متقدم في آن واحد ،  و أما الدور(المضمر) فيقع بمرحلتين أو اكثر ،  مثل تعريف الاثنين بأنهما زوج ،  والزوج منقسم إلى متساويين ،  والمتساويان يعرفان بأنهما شيئان ،  والشيئان يعرفان بأنهما اثنان وهكذا ،  ندور وصولا إلى التعريف الأول. ينظر في ذلك: سيد حسين الصدر ،  دروس في علم المنطق ،  ط 1 ،  مطبعة الزهراء ،  بغداد ،  1997 ،  ص 15.

([viii]) . الشيخ محمد رضا المظفر ،  المنطق ،   ص 14.

([ix]) 0 أدرجت التعارف هذه على الرغم من عدم ذكر المصادر لها ،  وذلك لقدم الاقتباس وتلف أجزاء كبيرة منه.

([x]) . السيد حسن إبراهيميان ،  نظرية المعرفة ،  ت:الشيخ فضيل الجزائري ،  ط1 ،  نشر مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر ،  لبنان بيروت ،  1425 هـ – 2004 م ،  ص 34.

([xi]) . المصدر السابق ،  ص 37.

([xii]) . ينظر المصدر السابق ،  والصفحة ،  حيث يؤيد ذلك.

([xiii]) . المصدر السابق ،  ص 38.

([xiv]) . محمد تقي مصباح اليزدي ،  المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ،  ت: محمد عبد المنعم الخاقاني ،  ط ،  مؤسسة النشر الإسلامي ،  1409 هـ ،  ص 135.

([xv]) . لمزيد من المعلومات ينظر: الشيخ جعفر سبحاني ،  نظرية المعرفة ،  مدخل إلى العلوم والفلسفة والإلهيات ،  ترجمة الشيخ حسن محمد مكي العاملي ،  مؤسسة الإمام الصادق(ع)  ،  قم المقدسة ،  1424 هـ ق ،  ص 17-34.

([xvi]) . السيد صدر الدين محمود الشيرازي ،  الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ،  مطبعة أفق ،  م 3 ،  ط1 ،  مركز توزيع النجف الأشراف ،  سنة 1425 هـ ،  2005 م ،  ص 221.