بحث في هذه المدونة

السبت، 8 ديسمبر 2012

مفهوم الخطاب والخطاب الجسدي.


 يتبادر إلى الأذهان بصورة عامة بمجرد سماع لفظ (الخطاب) توجهنا إلى ذلك المفهوم الأبرز المتداول كثيراً في ممارساتنا الحياتية اليومية. الذي نستطيع أن نصفه بأنه بشكل أو بآخر مرتبط بالمقاصد اللّغوية، سواء أكان على مستوى المشافهة والحوار أم على مستوى النّصوص الكتابية، وهو ليس كذلك، وإن كانت في هذه الدّعوى ثمة فوارق تفصل ما بين المحكي المسموع وما بين النّصي المقروء، فان إحالة تبادر الذّهن نحو مفهوم الخطاب كثيرا ما ترتبط وبنحوٍ متساوٍ بين كليهما، نتيجة لارتباط المفهوم أصلا بعلاقات التّواصل والتّفاعل الخارجي مع (الآخر)، وهي لا تكاد تنفك بالفعل عن ممارساتنا الحياتية اليومية. لكن هذا الاقتران الذّهني وان كان هو الذي يمثل حدود التّداول والشّائع إلا انه في حدوده الأخرى يقترن بالمعنى وبالصّورة وبالحركة وبالحجم والحيز الذي يحتله في الزّمان والمكان، بل ويقترن في كل شيء يمكن لحواسنا أن تصل إليه ولعقولنا أن تفكر به. إذاً فهو بهذا المعنى أكثر شمولية من تلك المقاصد اللّغوية (المحكية أو النّصية)، إنه يتعداها إلى أنماط من العلاقات التّواصلية غير تلك التي تلتزم ببنية اللّغة المجردة[1]. بل ويمكننا القول من خلال تقصينا له عبر دفق جنيولوجياه وبشكل اركيولوجي، بأنه في بادئ الأمر كان لا يمت صلة بهذه المقاصد اللّغوية، غير أن شيوع التّداول اللّغوي وتطور الدّراسات النّحوية والبلاغية وعلوم أخرى في الدّرس اللّغوي كالتّأثيل والتّعجيم، كان مسبباً في تبدل ارتباط الخطاب كمفهوم بمقاصد اللّغة ذاتها، حتى تحقق هذا الارتباط الذّهني بين الخطاب والمقاصد اللّغوية، وكأنه يمثل مسلمة شائعة. على الرّغم من انحسار الدّرس اللّغوي اليوم في أوساط نخبوية، وتراجعه أمام بلاغات أخرى أكثر فاعلية في التّواصل، كذلك التّواصل الذي يحقق نوعاً من التّلاحم الاجتماعي بين قوميات اثنولوجية مختلفة ومتعددة، من دون الحاجة إلى المقاصد اللّغوية واللّجوء إليها. إذاً فالخطاب (Discourse) واحدٌ من المصطلحات المعقدة التي ينفتح فيها التّأويل على جملة من المفاهيم ومجموعة من المقاصد، وما اللّغوية إلا واحدة منها.

الخطاب أكثر سعة من الأشياء؛ لأنه فيها ويتعداها. وهو جامع لكل الأفكار بل وقادر على نموها وتوليدها بصيغ أخرى، انه خلاصة التّفكير في ما لو كان إجمالاً، وإسهاب في التّفصيل في ما لو كان إمعاناً، يرتبط بالمجتمعات والأفراد، بالمعارف والشّرائع، وله القدرة على تحديد الهويات وبيانها؛ لأنه يأتي قبلها، هو الذي يحدد ما نكون عليه، ولا نحدد (نحن) ما يكون هو عليه، وان حدث؛ فذلك يستتبع نتائج معطياته. إذ لا شيء هناك آتٍ من العدم، وإنما هي نتائج إثر نتائج، وتجريب يستدعي قواعده في الأداء، الخطاب " هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به وهو السّلطة التي نحاول الاستيلاء عليها "[2]. وفي الوقت ذاته هو النّسيج المتداخل في كل شيء وفي معقوليات الأشياء كذلك، إنه مشكل الأنظمة السّتراتيجية، تلك التي تتخفى داخل البناء الاجتماعي، وهو الذي يروج لذاته على الرّغم من عدم قدرتنا على تحديدها. ليس لأنه من معميات الفكر وإنما لأنه لا ينفصل عن هوية الذّات الجمعية التي تنتجه، الأمر الذي يدعو إلى تعدد المفهوم وتشعبه لحدود تفوق التّصور[3].

إن أهم ما يميز الخطاب كحضور فاعل وفي كل المجالات بحسب تقصي وجوده ظاهراتيا، في مجرى شائك ومتصل بل ومتسلسل كذلك بشكل متتابع ومتلاحق في حدود لا نهائية، وعلى عمق متفاوت النّسبة بين تحولاته في ذاته بحدي (الماقبل والمابعد)، نجد أن أهم ما يميزه هو انفصاله عن كونه مجموعة قوانين أو محددات وتجرده عن الاكتفاء بزي واحد في حضوره الفاعل، إنه كالمنفلت اللّين الرّطب الذي نشكل به ما نشاء من أشكال، إلا انه يشكل ذاته بذاته ويؤكد حضوره في أنظمة التّداول، من دون احتياج إلى ظهور فيزيقي له؛ لان حضوره العمومي تطلب منه خلع خصوصيته وارتداءها لاحقا من قبلنا (نحن)، فنحن من نمثله ونحن من نتلبس به، انه أول أقنعتنا في التّخصص والتّميز والتّباين، وهو أول ما يكون حاضرا فينا على الرّغم من شدة التّخفي وسهولة انصهار الذّات (أنا) أو (نحن) فيه، إن تمييزه يقع بعد غفلة ظهوره القسري ذلك الذي لا فرار منه، وكشفه يقع تحت طول مرارة ومعاناة المتحرر تجاه المتسلط، من فرط ما اخذ يتحكم في الذّوات على الرّغم من أنها جاءت إليه تسعى في بادئ الأمر، إن للخطاب حضوراً مملوءاً بالمفاجآت؛ لأنه متبدل في أردية التّحكم فينا[4].

وان أهم ما يميز الخطاب كحضور فاعل كذلك، هو حضوره المتعدد في مجموعة من المعطيات التي تؤكد وجود دعواه على انه لباس العصر، أو لباس التّقدم، أو أي مسمى آخر، كالتّطور مثلا، أو كونه حاجة ملحة وغير ذلك، إلا أن هذه المعطيات بشكلها الشّمولي هي صنيعتنا، وعلى مر التّاريخ الممتد قدما في (الماقبل) أو المتلاحق استقبالاً في (المابعد)، فـ(نحن) نظفي عليه في حضوره المتخفي أبعادنا الفكرية التي يمكن حصرها في المحاور الآتية: أولاً: البعد المنطقي أو لنقل الابستمولوجي بشكل أعم؛ الخطاب يعلن عن حضوره وسرعان ما نعلن أنه كالمقولات المتعالية (Transcendental) على المعرفة، انه قيمة فوقية تتصف بما يتصف به المتناسق والجميل والنّافع، إننا نمنحه وبشكل (جمعي) مقومات وجوده فينا، نختط له طريقاً معبداً ذا نزعة مثالية، حتى يغدو نتيجة استقبالنّا المعرفي له وكأنه مما يستحيل الانفكاك عنا؛ وذلك من شدة ما تأملنا فيه، وسرعان ما يتيح لنا توالدّ الأفكار، ويجبرنا على الالتّزام به لأنه أخذ يمارس وبشدة دوره المتسلط علينا وهذا ثانيا: البعد السّلطوي، إذ نمنح الخطاب قدرة على التّحكم والهيمنة، من خلال تأسيس جملة من الضّوابط الالزّامية التي تتضح بشكل تدريجي، ولا يخفى على المتطلعين ما (توفره هذه الطّريقة للخطاب من فرصة ادعاء (إرادة المعرفة) واحتكارها، على اعتبار أن الحقيقة محجوبة ومكتومة ومصادرة. ولكن الخطاب وهو يقوم بهذا الادعاء فانه يمارس حجبا وكتما وإزاحة؛ ذلك أن السّلطة التي يُدّرعُ بها تتمتع برصيد هائل من القوة والهيمنة) [5]، تدعوه إلى ترسيخ برامجه السّلطوية ورقابته الدّائمة وعنفه المتواصل. وهنا لا يكون الخطاب سوى أداة للتعبير عن إرادة جماعة تسعى إلى فرض خبراتها وتصوراتها بما تتمتع به من حضور وسلطة. أما البعد التّداولي: وهو ثالثّا، فإن الخطاب يسعى دائما لاكتساب الموضوعية التي تمثل جميع الأحداث، ومن خلال بحثنا نحن كمجموع عن المشتركات الرّابطة في ما بينها، وكأننا نقوم بعملية صوغ للمفهوم الكلي بحثا عن أجزائه. حتى يتداول الخطاب سريعاً في أوساطه الاجتماعية، وهنا يتم دعمه بأكثر من وسيلة وبأكثر من طريقة، ولا يبدو التّداول أمراً طارئاً، وإنما هو في حد ذاته (حدث). تماماً كما الأقوال في أنظمة التّداول تعد (حدثاً) ؛ أليس الخطاب كمصطلح: (يستخدم للإشارة إلى مجموعة أقوال أو أحداث ذات صلة بعضها ببعض)[6]، حتى وان كان تداولنا لها هو السّبب في وجودها، والموضوعية التي انطلق منها مسبقا تؤكد عدم خصوصية أي أحد منا في تداوله، وإنما يقوم الجميع بإشراك نفسه في تداول الخطاب، سواء أكان ذلك بقصد أم بغير قصد؛ لان " العالم الذي أحوزه في أصل نظرة الآخر ليس خاصا إلى هذا الحد{حتى وان أصبحت} في نفس اللّحظة شبه متفرج تجاهه"[7]. وهنا ينفتح التّداول في رقعة المكاني ودفق الزّماني، ليتسرب كما لو أنه (الهواء) إلى الجميع، لكن لكل منا حضوره وفعله فيه.

إذاً فالأبعاد التي تجسد الحضور المتخفي للخطاب هي: البعد المنطقي، والبعد السّلطوي الالزّامي، والبعد التّداولي الانتشاري، أو الذي يحقق انتشاره. إن الخطاب ارتبط في حضوره ومنذ البداية كمحدد لتوجهات الإنساني، أو لنقل انه محدد لتوجهات الجسدي، وهذا الارتباط الذي يثير القلق؛ ليس لأنه من جهته التّاريخية يعود قدما إلى المرحلة الابتدائية الأولى، (الماقبل)، وإنما لكونه يعود إلى ذلك التّشيؤ الذي اتصف بطابع (بايولوجي) من جهة، وطابع (جنيالوجي) من جهة ثانية، أي أنه بعوده المؤشر إلى لحظة وجوده في الخط المتراجع زمانيا يؤشر إلى تلك اللّحظة التي تولدت فيها القدرة على انفصال العضوية الحية عن الشّيئية المادية الجامدة، والخطاب على هذا توأم (الجسداني) ما دام هو نامياً حساساً متحركاً بالإرادة، انه الموجود بلا شيئية قدماً، والمتسابق بلا خصوص يحدد فيه الهوية لحوقاً، وكأنه ما يمثل الامتداد في شرعنة الانقياد، والتّوأم الذي يحرك الوليد ولا ندري لماذا هو يتحرك، انه يثير فيه التّفكر ويدعوه في الوقت ذاته إلى الاستغراق في ذاته وفي الآخرين وفي الأشياء وما يجاورها، انه يدعو إلى كل شيء وليس كل شيء إلا في دعوته.

الجسدي في وجوده الفاعل والمنفعل في طبعه محبٌ لمشاركة الآخر، ولوجوده، ولولا دفع هذه المحبة لما كان هناك خطابٌ أصلا، أن يعني بقائي بمفردي في هذا العالم (وجودا) فهذه مسألة يصعب إقامة البرهان عليها أو إقامة الدّليل، لان وجودي لا شك في أنه مرتبط بوجود الآخر، وهذا الأخير على قدر كثرته وتعدده وتنوعه (عدداً وعرقاً وجنسانيةً) وبما هو جسداني كذلك تطلب أن يكون هناك خطابٌ في ما بيننا (أنا) و (هو). وبحسب المنهج الاستقرائي فان الجسدي في جسدانيته هو في حد ذاته مفردة خطابية، أو أن له القدرة على نشوء النّظام الخطابي الأول. خاصة بارتباطه مع الفعل وتأويل هذا الفعل، حتى تكونت لدينا جردة طويلة بالأفعال ومعانيها أتداول فيها مع الآخر، وافهمه ويفهمني، وبالإمكان أن نقول إن في هذا الخطاب الاشاري الجسدي تمكث نقطة الشّروع الأولى وانطلاقة الخطاب إلى حيز الوجود على الرّغم من أنه وجود متخفٍ خلف نوازعنا وحاجاتنا، أنا من جهة والآخر من جهة أخرى، وهكذا بيني وبين المجموعة في توصيفها اللّغوي (نحن)، أو بيني وبين ما يماثلني في الجسدانية والجنسانية (هي)، على الرّغم من خلافات النّافر والغائر في ما بيننا كتوصيف مورفولوجي. إذاً فالخطاب العام والأول هو الخطاب الجسدي، وهو أول ما يحقق التّداول في لغة جسدانية، تكونت حتى قبل وجود الخطاب اللّغوي ذاته بعشرات الآلاف من السّنين الممتدة في عمق (الماقبل). على أن لا يفقد الإجمال هنا في طرحنا لأفكار نراها مناسبة لدعم الفكرة الأساسية وهي: أن الجسداني أول محفز لنشوء الخطاب وأن علة هذا النّشوء هي (الآخر).

إن اللّغة الاشارية الجسدية هي اللّغة الأولى، وأن الخطاب الاشاري لا يرتبط بقضايا سردية مفاهيمية، وإنما هو قاصر على الارتباط المباشر بما هو في محيط المشاهدات. الإشارة كوسيط تداولي جسدي (مكثف) بلاغي يحيل على المشار إليه، وهنا لا يكون الجسد إلا لغة خطاب حسية أو هي مرتبطة بما هو حسي، أو لنقل إنها غير منفصلة عمّا هو عياني أو مسموع أو ملموس... الخ، ثم إن التّعبير فيها لا يحتاج إلى تكلف وعناء كبيرين، وهكذا فالاستقراء العقلي يؤكد حضور الصّوت مع الإشارة لاستخدامه في زيادة التّعبير*، واللّغة الجسدية الاشارية ليست مما يكتسب؛ لأنها في حضور دائم مع حضور الجسدي، إذ يتيح هذا الحضور سهولة التّداول وسهولة التّلقي، والمعاني في الحوار الجسدي لا تتعدى حدود إشباع الملذات والارتواء منها (مرحلة صيد الحيوانات وجمع القوت)، الجسدي في هذه المرحلة مع انصهاره في النّظام الطّبيعي يكفي أن يكون هاجس النّوع هو المبدأ الذي يشكل أولى العقود الجمعية حفاظا على النّوع ذاته، جراء ما في الطّبيعة من تقلبات بيئية وكوارث مهددة له، غير انه ومع ذلك الشّعور الجمعي أدرك أن بقاء الجسدي مرتبط بشكل أو بآخر مع الجسد الأنثوي، هذا الجسد الذي يحقق إشباع الملذات والارتواء والحفاظ على النّوع، ومن هنا اكتسب علة مصدرية، تشير إلى سلطة الوجود بالقدر الذي تشير فيه إلى دفق البقاء. والبقاء هنا عامل إنتاجي يقف الكيان الأنثوي في جهة قبال العامل الاستهلاكي، إذ تقف الطّبيعة في الجهة الأخرى، وهي تهدد بحصول كوارثها البيئية. إن انقراض (النّوع) أو (الموت) من أيسر معادلاتها تطبيقا. سرعان ما تحول الجسد الأنثوي إلى محل تمجيد وتعظيم في بنية الخطاب الجسدي، الأمر الذي يتطلب منا تحديدا لمفاصل ما تقدم بنحو يمكننا الحصول على نتائج الاستقراء، قلنا: إن الخطاب الجسدي أول ما وجد من خطاب وانه توأم الجسدانية ذاتها، وان هذا الخطاب لم يكن متوقفاً على علة في حدوثه عدا علة وجود (الآخر)، ولولا وجود الآخر لما أمكن أن يكون هناك خطابٌ أصلاً، وقد فُعّلَ هذا الآخر في أنظمة خطابية تشير إلى بقاء المجموعة؛ لان ما يمثل (الذّاتي) لم يكن له وجود بعد[9]، وبشكل متدرج تم وبمثابة الإدراك المتأخر انتخاب الجسد الأنثوي ليكون سبباً في البقاء على النّوع، غير أن هذا الانتخاب دالٌ على أن نظام الخطاب قد تطور؛ لان التّعامل مع الجسد الأنثوي على انه واهب النّوع يعني إحالتّه على مفهوم كلي يمثل الجسدانية كلها، وهذا الحساب والتّدرج من الإشارة الجزئية إلى معناها الطّبيعي المتلاحم، ثم إلى المفهوم الكلي تمثلاً في الجسد الأنثوي يعني أن اللّغة الجسدانية قابلة للنمو في أنظمة التّداول على الرّغم من أنها تمثل البداية فيه. في كتاب للباحث[10]، عن مراحل الوعي الإنساني وأهمية الوعي الجمالي، لأنه المتصدر في سلسلة تطور الوعي ذاته، تم التّأكيد في محله، بأن الوعي الجمالي هو أول أنواع الوعي، إلا انه ليس بأول أنواع الخطاب، لأنه قد ثبت هنا أن الخطاب الجسدي هو أول عتبات تطور نظام الخطاب والوعي فيه. إلا انه (أي الجمالي) هو أولى الممارسات في تفعيل الخطاب الجسداني، وكأن هذا الوعي جاء متمماً لاشتغالات الخطاب. فقد دفع الاشاري في آليات التّداول إلى توظيف (الصّورة) بحثاً عن معادل موضوعي بين الجسدي المصور والصّورة المتجسدة، إلا أن هذا التّوظيف- وبرصد ظاهراتي للمنجز البدائي في آثاره الكهفية- لم يتجاوز حدود إشباع الملذات والارتواء منها، وبقي الهاجس مرتبطاً بصيد الحيوانات وذكر النّوع في أجساد مصورة على جدران الكهوف، وتمجيد الكلي في بنيات شكلية رمزية (الآلهة الأم) [11]، وهذا يعني أن نظام التّداول اعتمد على الخطاب الجسداني وعلى خطاب الصّورة الجسدانية.

إذاً فالجسد في نظام الخطاب قد تطور إلى وعي جمالي بعد أن كان التّداول مكتفياً بوسائط إشارية، أو لنقل إن التّعامل مع (الصّورة) قد دفع إلى وجود خطاب آخر وهو الخطاب الجمالي. ومن هنا تبدأ الإشكالية في الخطاب؛ ليس لأنه يستلزم في نظامه ميكانزمات بناء الصّورة فقط، بل لأنه كان وما زال يستلزم حضور الجسدي وعلى مر خطي (الماقبل والمابعد)، ولان الخطاب الجمالي الجسداني فتح الباب لكل أنواع الخطاب الأخرى لان تأتي على مسرح هذا الوجود بشكل متتابع، وبحسب الاستقراء أرى أن الفضل ليس في تكامل الجمالي في دعم او نشوء الخطاب الإنساني بما فيه من تنوع وتعدد، وإنما هو في الحضور المشترك لكل من الجسدي وصورته المتجسدة، حتى أنني أستطيع أن أقول بأنهما أخذا يشكلان في اشتغالهما المشترك غراماطولوجيا الخطاب الذي بقي مستمرا حتى هذه اللّحظة من دون توقف. وهذه الاستمرارية في حد ذاتها إشكالية أخرى تستدعي الإمعان والنّظر؛ لان الجسدي اخذ في حضوره يمثل سلطة عليا ليس من اليسير تخطيها في الجانب الابداعي الشّكلي الذي يستدعي حضور الصّورة، وكأنه ذلك الـ(غرافيم) او الوحدة الخطية التي تمثل الخطاب بالكامل، أو هو القيمة التيرمينولوجية لمفهومه. أو لنقل إن كل ما دون بعد الخطاب الجمالي الجسداني في ميكانزمات صورية، إنما هو يعود إلى تلك البداية الكهفية في تاريخ البشرية، فنحن مدينون لها ليس لأنها نقطة الشّروع الأولى فحسب وإنما لأنها قد شكلت (غرافولوجيا: Graphologie) الخطاب الذي اعتمد على حضور الجسدي بشكل أساسي.

كلية الفنون الجميلة - جامعة بغداد
2012

=====================================================
[1]. للمزيد عن إشكاليات الخطاب اللّغوي يراجع:
- Chris Barker, Dariusz Galasinski, Cultural Studies and Discourse Analysis: A Dialogue on Language and Identity- Cultural Studies, SAGE, 2001.
وللاستزادة يراجع كذلك:
- Chris Barker, The SAGE Dictionary of Cultural Studies, SAGE, 2004.
- Michael Payne, Reading Knowledge: An Introduction to Foucault, Barthes & Althusser, John Wiley & Sons, 1997.
[2]. ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ت: محمد سبيلا، دار التّنوير للطباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2007، ص9.
[3]. ينظر للاستزادة حول مفهوم الخطاب باللّغة العربية: محمد علي الكبيسي، ميشيل فوكو، تكنولوجيا الخطاب، تكنولوجيا السّلطة، تكنولوجيا السّيطرة على الجسد، ط1، دار سراس، تونس، 1993، ص18-22.
[4]. للمزيد حول مفهوم السّلطة في الخطاب وتداول اللّغة ينظر:
- Norman Fairclough, Language and Power- Language in Social Life Series, second printing , Longman, 2001.
[5]. ينظر حول فكرة إرادة المعرفة: ميشيل فوكو، نظام الخطاب، مصدر سابق، ص 15-16، وكذلك: عبد الرّحمن التّليلي: فوكو: الحفريات منهج أم فتح في الفلسفة؟، مجلة عالم الفكر، م 30 ع 4 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002، ص 22. وكذلك:
- Walter Privitera, Problems of Style: Michel Foucault s Epistemology - Suny Series in Social and Political Thought, SUNY Press, 1995.
[6]. أيان كريب، النّظرية الاجتماعية – من بارسونز الى هابرماس، ت: د. محمد حسين غلوم، عالم المعرفة، ع 244، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999، ص 245.
[7]. موريس مرلوبونتي، المرئي واللّامرئي، ت: د. عبد العزيز العبادي، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربي، ط1، بيروت، 2008، ص108.
* إن الإشارة الجسدية في منظومة الخطاب، وبتفعيل الصّوت المحاكاتي لما هو طبيعي في الخارج، ستتطور شيئا فشيئا حتى تكون اساسا للّغة المقطعية الصّوتية في ما بعد.
[9]. في الخطاب الاشاري الجسداني لم يكن هناك ما يدعو إلى حضور مفهوم الشّخصي أو الشّخصاني، الذي يترتب عليه تفعيل الذّاتي في رؤية مستقلة، لان البعد الاشتغالي الذّهنوي لم يكن بعد متطلعا على سحر التّصورات الكلية، تلك التي تقوم باختزال الكون والوجود في كلمة مجردة عن التّوصيفات الجزئية الطّبيعية، تلك التي كان الإنسان في خطابه الجسدي غارقا بها، ولكن وعلى الرّغم من ذلك فان للفرد وليس للذات أهميته الكبرى لأنه يمثل المجموعة، ولعل هذا القول لـ(دافيد لوبروتون) في كتابه (انثروبولوجيا الجسد والحداثة) يؤيد ذلك: " إن الجسد يوجد في قلب العمل الفردي والجماعي، وفي قلب الرّمزية الاجتماعية " ص5.
[10]. احمد جمعة، الوعي الجمالي- دراسة في التّطبيقات الشّكلية البصرية، دار الأصدقاء، بغداد، 2009، ص43-77.
[11]. ينظر للمزيد: تانيا عبد البصير محمد، رسوم الكهوف- أنظمتها الشّكلية ومرجعياتها الفكرية- دراسة تحليلية، أطروحة دكتوراه فلسفة في الفنون التّشكيلية/ رسم، جامعة بغداد، 2005، بحث غير منشور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق