ربما يشير العنوان إلى مطلب يتعلق بنظرية العلم ، وهي كنظرية تبحث في متعلقات العلم ، أو بماذا يهتم العلم ، لكني هنا أود أن أبين ما هو العلم أصلا . من خلال أفكار بعض كبار أهل المعرفة ، فكثير منا عندما يسأل عن العلم ما هو : يجد السائل فينا حيرة كبيرة ، وتخبط في تصوراتنا حول هذا المفهوم الذي يبلغ من البداهة ما يجعله غير قابلا للتعريف أو الحد ، ولأجل ذلك أحببت أن أبين وفي سطور مختزلة ما هذا المفهوم وما هو تفسيره ، لكن بطريق علمي ومقتضب.
عند النظر إلى هذا المفهوم وتقصيه في أنظمة المعرفة المثالية ، يجد أي متطلع لطروحات المفكرين حيال هذا المفهوم ما يجعل منه محط غموض ، دون تفسيره ، وواقع الحال أن الحدود تستعمل لبيان ماهية الشيء ، دون إبهامها ، وبما أن المفكر المثالي يلتزم الحجة المنطقية ، لاسيما في شروط الحدود كما هي في كتب أو مؤلفات اغلبهم ، وفضلت أن أتماشى مع ما اشترطوه ، في مبحث التعريفات ، عندهم ، وحاولت أن استعرض المفهوم بشكل متسلسل اكرونولوجيا ، إلا ما عارض ذلك من تواز أو تداخل بين احدهم والآخر في المكان والزمان .
يقول أفلاطون إن"العلم إحساسا أو حكما صادقا"أو"ظنا صادقا مصحوبا ببرهان".([i]) وفي هذين التعريفين نجد أن العلم معرفا عند أفلاطون ، في كونه إحساساً أولاً ويتبعه الحكم ثانياً. وعلى أن يكون الحكم صادقا في المرحلة الثالثة. وهذه التتابعية لا تصلح لان تكون تعريف للعلم ، هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار(قواعد التعريف) المنطقية ، علاوة على كونه(ظنا) في التعريف الثاني ، والمعرفة لا تبنى إلا على التصديقات اليقينية عادة. صحيح أن المعرفة الظنية يعتد بها في أكثر المسائل ، إلا أن النتائج غالبا ما تكون يقينية. وبما أن التعريف في نظر الباحث يعد نتيجة ، لذا يجب أن يكون يقينيا ، لان "الغرض من الحدود والرسوم التصديق" ([ii]) .
قد يرى البعض أن مثل هكذا نقد أو مناقشة لا تصلح مع أفلاطون ، الذي يعد من المؤسسين لعلم المنطق ، إلا انه لا إشكال في مناقشة الآراء والأحكام معرفيا ، كما انه لا عيب في أن لا يتوصل الإنسان إلى حد من الحدود ، فهذا العالم الغزالي يقول عن العلم في كتابه المستصفي ، "يَعِسُ تحديده على الوجه الحقيقي لعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي ، فإننا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه و إذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن حد الإدراكات اعجز لكننا نقدر على شرح العلم بتقييم ومثال" ([iii]) .
والمهم في تعريف أفلاطون السابق هو عدم الشمولية ، وأحد شروط التعريف أن يكون شاملا لما هو معرف ، وعدم الشمولية تكمن في كون التعريف غير جامع للمدركات العقلية ، التي غالبا ما يتوصل الإنسان إليها عن طريق أخر ، غير طريق الإحساس فكأن المعرفة عنده حسية فقط. وبما أن أثاره الفلسفية تشير إلى وجود المعرفة العقلية في أبحاثه ، فإننا نقطع بصحة هذا التعريف فيما لو كان مختصا بالموجودات الحسية ومعرفتها من هذه الجهة فقط. وقد عاكسه في المطلب أرسطو ، فإذا كان العلم عند أفلاطون يأتي من الإحساس الصادق فإن أرسطو يؤكد على أن العلم إنما هو صدق البرهان ، لما تميز به من أفكار منطقية.
ولأنَّ الدرس المنطقي كان عند الفلاسفة العرب أكثر شمولية و أدق تشخصا ، و تأكد أثارهم أو هي تشير إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا عظيما. الأمر الذي دعا لان تسير هذه السطور على تحقيق تعريفهم للعلم. فالأشعري: يعرف"العلم بما يوجب بمن قام به كان عالما"([iv]) وعند المناطقة هذا التعريف باطلا كذلك ، أو تعريف للمبهم بمبهم غيره. لأنه قد وضع المشتق(العالم) في حد المشتق منه(العلم) ، وهذا يحتاج إلى بيان ، وإلا فمن لم يكن يعرف معنى أو(حد) (العالم) ، جهل التعريف كله ، وهذه حجة الغزالي([v]) ، ولان من شروط التعريف أن لا يُعرّف المبهم بمبهم آخر بل يُعرّف بلفظ بيّن. كما أن هناك جملة من التعاريف يذكرها الغزالي ، في أكثر من موضع ، متناثرة في متون كتبه محك النظر و المنخول في تعليقات الأصول وقد أشبعت نقدا ، وهذا يدل على رفعة الغزالي العلمية وهي:
العلم هو: ما يعلم به.
أو: صفة يتأتى للموصوف بها إتقان الفعل و إحكامه.
أو: تبين المعلوم على ما هو عليه.
أو: درك المعلوم.
أو: الإحاطة بالمعلوم.
أو: معرفة المعلوم على ما هو عليه.
وكانت حجته على التعاريف بالغة ، نذكر منها حجته على التعريف الأول ، في كون الحدود أصلا وضعت لغرض التوصل إلى بيان أو معرفة الشيء ، ولا بيان في هذا التعريف. وقد عاود الغزالي لنقد هذا التعريف في كتابه(المستصفي) و غيره ([vi]) وما ذلك إلا لغرض التوصل إلى الحد الحقيقي للعلم. وبقية المناقشة الخاصة بالتعاريف السابقة الذكر سنعرض عنها لغرض الاختصار. والمهم أنها جميعها لا تصلح لان تكون تعريفا جامعا مانعا كما يعبرون في شروط التعريف المنطقية([vii]) .
و أما المظفر ، فيرى أن العلم هو"حضور صورة الشيء عند العقل"([viii]) ، وعلى الرغم من كونه يعد من أهل المعرفة بهذا المجال ، إلا انه جعل العلم محصورا في(الصورة) . وحضورها في العقل شرطٌ من شروط التعريف ، الذي يمكن أن يطلق على العلم ، ومن الواضح أن الأشياء التي هي بمدار معرفتنا ، لا تكون بشكل الجمع أو صيغته محتوية على الصورة ، إذ ثمة أشياء لا صورة لها ، والبعض الآخر من الأشياء وان كانت لها صورة إلا أنها غير مرئية. الأمر الذي دعا لان نحكم على هذا التعريف بوصفة غير جامع ولا مانع. ونلاحظ أن(الله) تبارك وتعالى مثلا ليس بشيء ولا صورة له ، و علمنا به تعالى لا يعتبر علما بحسب هذا التعريف ، وهذا أمر لا يستطاع تقبله ، ولذا فالتعريف الذي يقيده المظفر يكون جامعا مانعا للعلم الحسي أو المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس فقط.
التعاريف المنطقية كثيرة ولا حصر لها ، فمن خلال البحث والتقصي وجد الباحث تعاريفا أخرى منسوبة إلى الرازي أو المعروف بالقطب الرازي ، وهو أن(العلم) : حصول نفس الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل. وبعضهم قال إن العلم هو : قبول النفس وانفعالها وتأثيرها بالصورة الحاصلة من الشيء. و أخر يقول : العلم هو انطباع صورة الشيء في الذهن ، إلى غيرها من التعاريف([ix]) التي لا تعد إلا فاسدة فيما لو راعينا الشروط المنطقية الخاصة بمبحث التعريف. ولكن هذا لا يعني أنهم ليسوا بمنطقيين. ولا يعني أنهم ليسوا بأصحاب معرفة. فلا يخدش ذلك أي شيء في مقاماتهم وعطائهم العلمي ، ولا يتصور البعض بأني ابغي التهجم على شخصياتهم العلمية ، أبدا ، فأنا أود أن أوضح المطلب ، في انهم لم يعرفوا العلم ، وإنما وضعوا التعاريف هذه على سبيل وصف العلم ، لا التعريف الذي يكون جامعا مانعا للمفهوم ، فقد يُشْكَلُ على عامة التعاريف في كونها تناولت الجزئي دون الكلي ، ولم يكن فيها حساب لمفهوم(العدم) ولا حساب للمفاهيم الممكنة الوجود ، ولا حساب لمفهوم المطلق إلى غير ذلك.
هذا من جهة ومن جهة ثانية نجد أن المعرفة “لا تحصل بمجرد انعكاس الأشياء في الذهن – سواء أكان التصور ماديا كما يدعي الماديون ذلك ، أم مجرداً كما يدعي أتباع الميتافيزيقيا – فإن انعكاس صورة الأشياء في المرآة لا يجعل المرآة عالمة بها ، على اعتبار أن المعرفة تتحقق في حالة وجود وحدة بين المتصوِر(العاِلم) والصور المنعكسة"([x]) (العاَلم) .
و أما تعريف صدر الدين والعلامة الطباطبائي القائل بان العلم:هو“حضور مجرد عند مجرد"([xi]) . فهو تعريف يشير إلى أن يكون الإنسان متصفا بتخليه عن المادة غير متعلق إلا بغيرها من الكمالات. فمقتضى حضور العلم للعالِم ، أن يكون العالِم أيضا تاما في نفسه غير ناقص ، من حيث بعض كمالاته الممكنة له. وهو كونه مجردا من المادة وهذا التعريف خاص لأهل الذوق والعرفان في تقدير الباحث.([xii]) أما موارد نقده فهي“يرد على هذا التعريف انه لا يشمل العلم بالماديات بما هي ماديات ، فإنها بما هي ماديات خارجة وفقا لهذا التعريف عن العلم والإدراك ، ولان كون الله تعالى لا يعلم بالماديات بما هي ، فهذا مطلب عجيب ، وعلى اعتبار أن ما نريده من العلم هو إحاطة العالم بوجود المعلوم في أي مرتبة وجد فيها“([xiii]) .
أما تعريف الشيخ محمد تقي اليزدي فهو“حضور ذات الشيء أو صورته الجزئية أو مفهومه الكلي لدى موجود مجرد“([xiv]) ولا بد أن نضيف انه ليس من لوازم العلم أن يكون العالِم دائما غير المعلوم. و إنما من الممكن في بعض الموارد- كما في علم النفس بذاتها– أن لا يكون تعددا بين العالِم والمعلوم ، وفي الحقيقة فانه في مثل هذا المورد تكون(الوحدة) أكمل مصداق(للحضور) .
يكتفي الباحث بذكر التعاريف السابقة ، ويتبنى تعريف الشيخ اليزدي الاخير ، لأنه تعريف جمع ما بين المادي والمعنوي. جمع بين المتشكل المرئي والمتشكل اللامرئي. جمع بين الحسي والمجرد([xv]) ، كما أن الباحث لا يعارض ما ذكره العلامة الشيرازي ، وان كان الفيلسوف صدر الدين المعروف بالشيرازي يقول :"العلم من الحقائق التي إنيتها عين ماهيتها ومثل تلك الحقائق لا يمكن تحديدها إذ الحدود مركبة من أجناس وفصول وهي أمور كلية ، وكل وجود متشخص بذاته ، وتعريفه بالرسم التام أيضا ممتنع ، كيف ولاشيء اعرف من العلم ، وما هذا شانه يتعذر أن يعرف بما هو أجلى واظهر ، ولان كل شيء يظهر عند العقل بالعلم به فكيف يظهر العلم بشيء غير العلم"([xvi]) .
=== الهوامش ===
([i]) . محمد محمود رحيم الكبيسي ، نظرية العلم عند الغزالي ، دراسة نقدية لطرق المعرفة ، منشورات بيت الحكمة ، بغداد ، 2002 ، ص 25.
([ii]) . ابن سينا ، التعليقات ، تحقيق د. حسن مجيد العبيدي ، منشورات بيت الحكمة ، ط1 ، بغداد ، 2002 ، ص63.
([iii]) . الغزالي ، المستصفي من علم الأصول ، ط1 ، مصر ، 1422هـ ، ص 25.
([iv]) . الغزالي ، المنخول من تعليقات الأصول ، تحقيق محمد هيتو ، دمشق ، 1970 ، ص 36
([v]) . ينظر ا لمصدر السابق والصفحة.
([vi]) . ينظر:الكبيسي محمد محمود رحيم ، نظرية العلم عند الغزالي ، مصدر سابق ، ص 20.
([vii]) . يذكر المناطقة جملة من الشروط وهي:1. لا يجوز التعريف بالأعم ، مثل تعريف النحت بأنه فن ، لان الفن اعم من النحت ، والسبب في ذلك هو دخول الموسيقى والمسرح والرسم وغير ذلك. 2. لا يجوز التعريف بالأخص ، مثل تعريف الإنسان بأنه طبيب أو مهندس أو فنان ، لان الأخص لا يكون جامعا مانعا ، فهناك إنسان وليس هو بفنان و طبيب. 3. لا يجوز التعريف بالمباين ، مثل تعريف النحت بأنه حجر. 4. لا يجوز التعريف بالمبهم ، مثل تعريف الممثل بما يكون فاعلا أو منفعلا. 5. لا يجوز التعريف بالدور ، وهو على نوعين(واضح) كما في قضية البيضة والدجاجة مثلا ، أحدهما متأخر أو متقدم في آن واحد ، و أما الدور(المضمر) فيقع بمرحلتين أو اكثر ، مثل تعريف الاثنين بأنهما زوج ، والزوج منقسم إلى متساويين ، والمتساويان يعرفان بأنهما شيئان ، والشيئان يعرفان بأنهما اثنان وهكذا ، ندور وصولا إلى التعريف الأول. ينظر في ذلك: سيد حسين الصدر ، دروس في علم المنطق ، ط 1 ، مطبعة الزهراء ، بغداد ، 1997 ، ص 15.
([viii]) . الشيخ محمد رضا المظفر ، المنطق ، ص 14.
([ix]) 0 أدرجت التعارف هذه على الرغم من عدم ذكر المصادر لها ، وذلك لقدم الاقتباس وتلف أجزاء كبيرة منه.
([x]) . السيد حسن إبراهيميان ، نظرية المعرفة ، ت:الشيخ فضيل الجزائري ، ط1 ، نشر مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر ، لبنان بيروت ، 1425 هـ – 2004 م ، ص 34.
([xi]) . المصدر السابق ، ص 37.
([xii]) . ينظر المصدر السابق ، والصفحة ، حيث يؤيد ذلك.
([xiii]) . المصدر السابق ، ص 38.
([xiv]) . محمد تقي مصباح اليزدي ، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ، ت: محمد عبد المنعم الخاقاني ، ط ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1409 هـ ، ص 135.
([xv]) . لمزيد من المعلومات ينظر: الشيخ جعفر سبحاني ، نظرية المعرفة ، مدخل إلى العلوم والفلسفة والإلهيات ، ترجمة الشيخ حسن محمد مكي العاملي ، مؤسسة الإمام الصادق(ع) ، قم المقدسة ، 1424 هـ ق ، ص 17-34.
([xvi]) . السيد صدر الدين محمود الشيرازي ، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ، مطبعة أفق ، م 3 ، ط1 ، مركز توزيع النجف الأشراف ، سنة 1425 هـ ، 2005 م ، ص 221.
ربما يشير العنوان إلى مطلب يتعلق بنظرية العلم ، وهي كنظرية تبحث في متعلقات العلم ، أو بماذا يهتم العلم ، لكني هنا أود أن أبين ما هو العلم أصلا . من خلال أفكار بعض كبار أهل المعرفة ، فكثير منا عندما يسأل عن العلم ما هو : يجد السائل فينا حيرة كبيرة ، وتخبط في تصوراتنا حول هذا المفهوم الذي يبلغ من البداهة ما يجعله غير قابلا للتعريف أو الحد ، ولأجل ذلك أحببت أن أبين وفي سطور مختزلة ما هذا المفهوم وما هو تفسيره ، لكن بطريق علمي ومقتضب.
عند النظر إلى هذا المفهوم وتقصيه في أنظمة المعرفة المثالية ، يجد أي متطلع لطروحات المفكرين حيال هذا المفهوم ما يجعل منه محط غموض ، دون تفسيره ، وواقع الحال أن الحدود تستعمل لبيان ماهية الشيء ، دون إبهامها ، وبما أن المفكر المثالي يلتزم الحجة المنطقية ، لاسيما في شروط الحدود كما هي في كتب أو مؤلفات اغلبهم ، وفضلت أن أتماشى مع ما اشترطوه ، في مبحث التعريفات ، عندهم ، وحاولت أن استعرض المفهوم بشكل متسلسل اكرونولوجيا ، إلا ما عارض ذلك من تواز أو تداخل بين احدهم والآخر في المكان والزمان .
يقول أفلاطون إن"العلم إحساسا أو حكما صادقا"أو"ظنا صادقا مصحوبا ببرهان".([i]) وفي هذين التعريفين نجد أن العلم معرفا عند أفلاطون ، في كونه إحساساً أولاً ويتبعه الحكم ثانياً. وعلى أن يكون الحكم صادقا في المرحلة الثالثة. وهذه التتابعية لا تصلح لان تكون تعريف للعلم ، هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار(قواعد التعريف) المنطقية ، علاوة على كونه(ظنا) في التعريف الثاني ، والمعرفة لا تبنى إلا على التصديقات اليقينية عادة. صحيح أن المعرفة الظنية يعتد بها في أكثر المسائل ، إلا أن النتائج غالبا ما تكون يقينية. وبما أن التعريف في نظر الباحث يعد نتيجة ، لذا يجب أن يكون يقينيا ، لان "الغرض من الحدود والرسوم التصديق" ([ii]) .
قد يرى البعض أن مثل هكذا نقد أو مناقشة لا تصلح مع أفلاطون ، الذي يعد من المؤسسين لعلم المنطق ، إلا انه لا إشكال في مناقشة الآراء والأحكام معرفيا ، كما انه لا عيب في أن لا يتوصل الإنسان إلى حد من الحدود ، فهذا العالم الغزالي يقول عن العلم في كتابه المستصفي ، "يَعِسُ تحديده على الوجه الحقيقي لعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي ، فإننا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه و إذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن حد الإدراكات اعجز لكننا نقدر على شرح العلم بتقييم ومثال" ([iii]) .
والمهم في تعريف أفلاطون السابق هو عدم الشمولية ، وأحد شروط التعريف أن يكون شاملا لما هو معرف ، وعدم الشمولية تكمن في كون التعريف غير جامع للمدركات العقلية ، التي غالبا ما يتوصل الإنسان إليها عن طريق أخر ، غير طريق الإحساس فكأن المعرفة عنده حسية فقط. وبما أن أثاره الفلسفية تشير إلى وجود المعرفة العقلية في أبحاثه ، فإننا نقطع بصحة هذا التعريف فيما لو كان مختصا بالموجودات الحسية ومعرفتها من هذه الجهة فقط. وقد عاكسه في المطلب أرسطو ، فإذا كان العلم عند أفلاطون يأتي من الإحساس الصادق فإن أرسطو يؤكد على أن العلم إنما هو صدق البرهان ، لما تميز به من أفكار منطقية.
ولأنَّ الدرس المنطقي كان عند الفلاسفة العرب أكثر شمولية و أدق تشخصا ، و تأكد أثارهم أو هي تشير إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا عظيما. الأمر الذي دعا لان تسير هذه السطور على تحقيق تعريفهم للعلم. فالأشعري: يعرف"العلم بما يوجب بمن قام به كان عالما"([iv]) وعند المناطقة هذا التعريف باطلا كذلك ، أو تعريف للمبهم بمبهم غيره. لأنه قد وضع المشتق(العالم) في حد المشتق منه(العلم) ، وهذا يحتاج إلى بيان ، وإلا فمن لم يكن يعرف معنى أو(حد) (العالم) ، جهل التعريف كله ، وهذه حجة الغزالي([v]) ، ولان من شروط التعريف أن لا يُعرّف المبهم بمبهم آخر بل يُعرّف بلفظ بيّن. كما أن هناك جملة من التعاريف يذكرها الغزالي ، في أكثر من موضع ، متناثرة في متون كتبه محك النظر و المنخول في تعليقات الأصول وقد أشبعت نقدا ، وهذا يدل على رفعة الغزالي العلمية وهي:
العلم هو: ما يعلم به.
أو: صفة يتأتى للموصوف بها إتقان الفعل و إحكامه.
أو: تبين المعلوم على ما هو عليه.
أو: درك المعلوم.
أو: الإحاطة بالمعلوم.
أو: معرفة المعلوم على ما هو عليه.
وكانت حجته على التعاريف بالغة ، نذكر منها حجته على التعريف الأول ، في كون الحدود أصلا وضعت لغرض التوصل إلى بيان أو معرفة الشيء ، ولا بيان في هذا التعريف. وقد عاود الغزالي لنقد هذا التعريف في كتابه(المستصفي) و غيره ([vi]) وما ذلك إلا لغرض التوصل إلى الحد الحقيقي للعلم. وبقية المناقشة الخاصة بالتعاريف السابقة الذكر سنعرض عنها لغرض الاختصار. والمهم أنها جميعها لا تصلح لان تكون تعريفا جامعا مانعا كما يعبرون في شروط التعريف المنطقية([vii]) .
و أما المظفر ، فيرى أن العلم هو"حضور صورة الشيء عند العقل"([viii]) ، وعلى الرغم من كونه يعد من أهل المعرفة بهذا المجال ، إلا انه جعل العلم محصورا في(الصورة) . وحضورها في العقل شرطٌ من شروط التعريف ، الذي يمكن أن يطلق على العلم ، ومن الواضح أن الأشياء التي هي بمدار معرفتنا ، لا تكون بشكل الجمع أو صيغته محتوية على الصورة ، إذ ثمة أشياء لا صورة لها ، والبعض الآخر من الأشياء وان كانت لها صورة إلا أنها غير مرئية. الأمر الذي دعا لان نحكم على هذا التعريف بوصفة غير جامع ولا مانع. ونلاحظ أن(الله) تبارك وتعالى مثلا ليس بشيء ولا صورة له ، و علمنا به تعالى لا يعتبر علما بحسب هذا التعريف ، وهذا أمر لا يستطاع تقبله ، ولذا فالتعريف الذي يقيده المظفر يكون جامعا مانعا للعلم الحسي أو المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس فقط.
التعاريف المنطقية كثيرة ولا حصر لها ، فمن خلال البحث والتقصي وجد الباحث تعاريفا أخرى منسوبة إلى الرازي أو المعروف بالقطب الرازي ، وهو أن(العلم) : حصول نفس الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل. وبعضهم قال إن العلم هو : قبول النفس وانفعالها وتأثيرها بالصورة الحاصلة من الشيء. و أخر يقول : العلم هو انطباع صورة الشيء في الذهن ، إلى غيرها من التعاريف([ix]) التي لا تعد إلا فاسدة فيما لو راعينا الشروط المنطقية الخاصة بمبحث التعريف. ولكن هذا لا يعني أنهم ليسوا بمنطقيين. ولا يعني أنهم ليسوا بأصحاب معرفة. فلا يخدش ذلك أي شيء في مقاماتهم وعطائهم العلمي ، ولا يتصور البعض بأني ابغي التهجم على شخصياتهم العلمية ، أبدا ، فأنا أود أن أوضح المطلب ، في انهم لم يعرفوا العلم ، وإنما وضعوا التعاريف هذه على سبيل وصف العلم ، لا التعريف الذي يكون جامعا مانعا للمفهوم ، فقد يُشْكَلُ على عامة التعاريف في كونها تناولت الجزئي دون الكلي ، ولم يكن فيها حساب لمفهوم(العدم) ولا حساب للمفاهيم الممكنة الوجود ، ولا حساب لمفهوم المطلق إلى غير ذلك.
هذا من جهة ومن جهة ثانية نجد أن المعرفة “لا تحصل بمجرد انعكاس الأشياء في الذهن – سواء أكان التصور ماديا كما يدعي الماديون ذلك ، أم مجرداً كما يدعي أتباع الميتافيزيقيا – فإن انعكاس صورة الأشياء في المرآة لا يجعل المرآة عالمة بها ، على اعتبار أن المعرفة تتحقق في حالة وجود وحدة بين المتصوِر(العاِلم) والصور المنعكسة"([x]) (العاَلم) .
و أما تعريف صدر الدين والعلامة الطباطبائي القائل بان العلم:هو“حضور مجرد عند مجرد"([xi]) . فهو تعريف يشير إلى أن يكون الإنسان متصفا بتخليه عن المادة غير متعلق إلا بغيرها من الكمالات. فمقتضى حضور العلم للعالِم ، أن يكون العالِم أيضا تاما في نفسه غير ناقص ، من حيث بعض كمالاته الممكنة له. وهو كونه مجردا من المادة وهذا التعريف خاص لأهل الذوق والعرفان في تقدير الباحث.([xii]) أما موارد نقده فهي“يرد على هذا التعريف انه لا يشمل العلم بالماديات بما هي ماديات ، فإنها بما هي ماديات خارجة وفقا لهذا التعريف عن العلم والإدراك ، ولان كون الله تعالى لا يعلم بالماديات بما هي ، فهذا مطلب عجيب ، وعلى اعتبار أن ما نريده من العلم هو إحاطة العالم بوجود المعلوم في أي مرتبة وجد فيها“([xiii]) .
أما تعريف الشيخ محمد تقي اليزدي فهو“حضور ذات الشيء أو صورته الجزئية أو مفهومه الكلي لدى موجود مجرد“([xiv]) ولا بد أن نضيف انه ليس من لوازم العلم أن يكون العالِم دائما غير المعلوم. و إنما من الممكن في بعض الموارد- كما في علم النفس بذاتها– أن لا يكون تعددا بين العالِم والمعلوم ، وفي الحقيقة فانه في مثل هذا المورد تكون(الوحدة) أكمل مصداق(للحضور) .
يكتفي الباحث بذكر التعاريف السابقة ، ويتبنى تعريف الشيخ اليزدي الاخير ، لأنه تعريف جمع ما بين المادي والمعنوي. جمع بين المتشكل المرئي والمتشكل اللامرئي. جمع بين الحسي والمجرد([xv]) ، كما أن الباحث لا يعارض ما ذكره العلامة الشيرازي ، وان كان الفيلسوف صدر الدين المعروف بالشيرازي يقول :"العلم من الحقائق التي إنيتها عين ماهيتها ومثل تلك الحقائق لا يمكن تحديدها إذ الحدود مركبة من أجناس وفصول وهي أمور كلية ، وكل وجود متشخص بذاته ، وتعريفه بالرسم التام أيضا ممتنع ، كيف ولاشيء اعرف من العلم ، وما هذا شانه يتعذر أن يعرف بما هو أجلى واظهر ، ولان كل شيء يظهر عند العقل بالعلم به فكيف يظهر العلم بشيء غير العلم"([xvi]) .
=== الهوامش ===
([i]) . محمد محمود رحيم الكبيسي ، نظرية العلم عند الغزالي ، دراسة نقدية لطرق المعرفة ، منشورات بيت الحكمة ، بغداد ، 2002 ، ص 25.
([ii]) . ابن سينا ، التعليقات ، تحقيق د. حسن مجيد العبيدي ، منشورات بيت الحكمة ، ط1 ، بغداد ، 2002 ، ص63.
([iii]) . الغزالي ، المستصفي من علم الأصول ، ط1 ، مصر ، 1422هـ ، ص 25.
([iv]) . الغزالي ، المنخول من تعليقات الأصول ، تحقيق محمد هيتو ، دمشق ، 1970 ، ص 36
([v]) . ينظر ا لمصدر السابق والصفحة.
([vi]) . ينظر:الكبيسي محمد محمود رحيم ، نظرية العلم عند الغزالي ، مصدر سابق ، ص 20.
([vii]) . يذكر المناطقة جملة من الشروط وهي:1. لا يجوز التعريف بالأعم ، مثل تعريف النحت بأنه فن ، لان الفن اعم من النحت ، والسبب في ذلك هو دخول الموسيقى والمسرح والرسم وغير ذلك. 2. لا يجوز التعريف بالأخص ، مثل تعريف الإنسان بأنه طبيب أو مهندس أو فنان ، لان الأخص لا يكون جامعا مانعا ، فهناك إنسان وليس هو بفنان و طبيب. 3. لا يجوز التعريف بالمباين ، مثل تعريف النحت بأنه حجر. 4. لا يجوز التعريف بالمبهم ، مثل تعريف الممثل بما يكون فاعلا أو منفعلا. 5. لا يجوز التعريف بالدور ، وهو على نوعين(واضح) كما في قضية البيضة والدجاجة مثلا ، أحدهما متأخر أو متقدم في آن واحد ، و أما الدور(المضمر) فيقع بمرحلتين أو اكثر ، مثل تعريف الاثنين بأنهما زوج ، والزوج منقسم إلى متساويين ، والمتساويان يعرفان بأنهما شيئان ، والشيئان يعرفان بأنهما اثنان وهكذا ، ندور وصولا إلى التعريف الأول. ينظر في ذلك: سيد حسين الصدر ، دروس في علم المنطق ، ط 1 ، مطبعة الزهراء ، بغداد ، 1997 ، ص 15.
([viii]) . الشيخ محمد رضا المظفر ، المنطق ، ص 14.
([ix]) 0 أدرجت التعارف هذه على الرغم من عدم ذكر المصادر لها ، وذلك لقدم الاقتباس وتلف أجزاء كبيرة منه.
([x]) . السيد حسن إبراهيميان ، نظرية المعرفة ، ت:الشيخ فضيل الجزائري ، ط1 ، نشر مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر ، لبنان بيروت ، 1425 هـ – 2004 م ، ص 34.
([xi]) . المصدر السابق ، ص 37.
([xii]) . ينظر المصدر السابق ، والصفحة ، حيث يؤيد ذلك.
([xiii]) . المصدر السابق ، ص 38.
([xiv]) . محمد تقي مصباح اليزدي ، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ، ت: محمد عبد المنعم الخاقاني ، ط ، مؤسسة النشر الإسلامي ، 1409 هـ ، ص 135.
([xv]) . لمزيد من المعلومات ينظر: الشيخ جعفر سبحاني ، نظرية المعرفة ، مدخل إلى العلوم والفلسفة والإلهيات ، ترجمة الشيخ حسن محمد مكي العاملي ، مؤسسة الإمام الصادق(ع) ، قم المقدسة ، 1424 هـ ق ، ص 17-34.
([xvi]) . السيد صدر الدين محمود الشيرازي ، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ، مطبعة أفق ، م 3 ، ط1 ، مركز توزيع النجف الأشراف ، سنة 1425 هـ ، 2005 م ، ص 221.
مهم عندي كباحث ان اسمع اراء الاخوة الكرام . محبتي للجميع .
ردحذف