قبل يومين مر على (العراق) - وهي ليست المرة الاولى التي يمر بها هذا البلد الجريح على مر التاريخ - محاولات همجية وغريبة لا اعتقد بأنها صدرت عن مسلم أو عاقل أو إنسان ، فمن يعمد إلى قتل أخيه الإنسان كأنما قتل الناس جميعا ، الرحمة لكل إنسان غادر الحياة جراء تصرفات الهمجيين والوحشيين على هذه الأرض التي حولناها وللأسف محط صراعات أنتجتها عقولنا في كثير من الأحيان . ولأجل ذلك كتبت هذه السطور.
يذكر علماء الاجتماع أو علماء الانثروبولوجيا بأن الطقوس : هي مجموعة حركات سلوكية متكررة يتفق عليها أبناء المجتمع وتكون على أنواع وأشكال مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الفاعل الاجتماعي أو الجماعة للقيام بها. ولا فرق بين أن تكون قديمة أو جديدة مستحدثة ، لكننا في الآونة الأخيرة شهدنا حراكا اجتماعيا تواصليا يكاد أن يكون كونيا ، نتيجة وسائل الاتصال وتطورها ومساعيها في اختزال المكان والزمان ، وقد سبب هذا لحدوث طقوس كونية تشتمل على تجمعات مليونية عظيمة وهي بلا شك تمثل التعبير عن محتوى الفكر الذي ينظم الجماعات في تصرفات سلوكية معينة كما يذكر علماء الاجتماع ، والمتطلعين يعرفون بان أولى الممارسات الطقوسية كانت مع بوادر التفكير السحري في المجتمعات البدائية ، ثم انتقلت الطقوس بعد ذلك لتمثل الجماعات البشرية ضمن معتقدات وثنية اذكر منها تلك التي مرت على بلاد وادي الرافدين وبلاد النيل والإغريق وغير ذلك ، فقد كان الناس يدينون بالإلهة المتعددة ويقومون بطقوس تعبدية جماعية للتعبير عن ولائهم وخضوعهم لما يؤمنون به وما يتصورونه من أفكار . لكن بعد أن جاءت الديانات السماوية الأخيرة كاليهودية والمسيحية والإسلامية تحولت الطقوس إلى نظم أدائية مختلفة ، فكل ديانة تعكس في تصرفاتها الجمعية ما يمثل هذه الديانة عينها من تصرفات تعبدية ، والأمثلة في ذلك كثيرة ومنها معاصرة أو راهنة ، غير أن الطقوس الإسلامية تقسم إلى قسمين :
الأولى وهي : الطقوس التعبدية المنصوص عليها كالحج والعمرة والصوم والصلاة وغير ذلك مما صرح به في القرآن الكريم.
والثانية وهي : الطقوس الولائية غير المصرح بها أو منصوص عليها في الكتاب العظيم (القرآن الكريم) ، وإنما يعتمد المسلمون فيها على نصوص روائية.
والمعروف بأن الإسلاميين يمتلكون في الاستدلال على تلك النصوص طرقا مختلفة ومتعددة وان كان الاستدلال في حقيقة أمره واحدا. إلا أنها في الغالب لا تنفك عن القدسية التي يسبغها عليها رجالات العلم من كل فريق أو مذهب، بناء على حججهم العقلية التي يصاحبها الحديث المروي ، كما انه ليس شرطا أن يكون الحديث مرويا عن النبي (صلى الله تعالى عليه وعلى اله وصحبه وسلم) لتتمثل به الحجية ، بل يمكن له أن يتصف بالحجية وان كان مرويا عن رجال العلم الذين بينهم وبين زمن الرسول (ص) قرونا عديدة ، كما في الطرق الصوفية وإقامة المواليد للأولياء والأقطاب (رحمهم الله تعالى جميعا) ، بنقر الدفوف وقرع الطبول والترنح والدوران والتلاعب بالنيران، والدراويش بضرب الخواصر بالسيوف ، وغرس الرؤوس بالسكاكين وطحن الزجاج بالأسنان والمشي على النار في تموجات جسمانية وغير ذلك مما هو خارج عن مألوف المجتمع الإسلامي في الأيام الاعتيادية بشكل عام، وكذلك في الطقوس الدينية الولائية الأخرى عند محبي أهل البيت عليهم السلام ، في لطم الصدور وضرب الرؤوس بالسكاكين بما يعرف بـ(التطبير) وغير ذلك، والملفت للنظر أن الفكر الأخلاقي الذي تنادي به هذه الطقوس الولائية الإسلامية ، كلها ذات مشرب واحد ، ويحمل رفعة الأخلاق وسمو النفس ، فكل متدين طقسي يحث صاحبه بما يحث عليه الدين من تجاوز المحارم أو تركها ونبذ كل ما يشين النفس ويبعدها عن مطلبها الصحيح ، لطلب القرب من الله تعالى عز وجل ، والجماعات لأجل ذلك لها مريدين كثر ، ولو كانت تدعوا إلى غير ذلك لنفر منهم الناس جميعا ، لأننا ندرك أن ميل الإنسان إلى رفعة المقامات السامية هو ميل فطري ، والأخلاق والفضيلة إنما هي مطلب كل المسلمين ، وهو من دون شك قادم من الفكر الإسلامي السمح الذي جاء ليكون متمما للأخلاق ، غير أن هذه الطقوس بما هي جماعات متدينة ، وللأسف الشديد يقابل بعضها البعض الآخر بالحقد والضغينة ، فتجد هذه المجموعة تتحدث عن الأخرى بوصفها بدعة ، ولم يأت الإسلام بها ، وأنها كفر بل وهي شيطنة ، إلى غير ذلك من التعابير التي تركت ورائها كل تلك الدعوات التي تنادي بالأخلاق وبالفضيلة. وهذا أمر ليس صحيحا أبدا بل وهو مخالف لكل قواعد الاستدلال العقلي تلك التي انبثقت منها الطقوس الولائية في بادئ الأمر ، ومن العبث أن يجعل الفرد من اعتقاداته أنموذجا مثاليا ولها مرجعياتها الصحيحة وبالمقابل يقوم بتكفير ما عداها ويصدر الفتوى بذلك وينفق الأموال لمحاربتها ، ومن هنا بدأ الصراع الداخلي بين جماعات المسلمين وبدأ التنافر ، وبدأ يسيطر على الأمة أصحاب رؤوس الأموال ودول واستراتيجيات مستقبلية وحروب إعلامية ودور نشر ومواقع الكترونية وغير ذلك ، وتناست هذه الأمة بأنها امة وسط وعليها أن تكون أمة واحدة ، بحسب دعوى القرآن الكريم والرسول الأعظم، ولا ننسى أن الفكر الإنساني بما هو رحمة ومنحة كونية إلهية للإنسان في (العقل والتعقل) ، اخذ يبدو وللأسف نقمة لاختلاف الأمة في الفروع الشرعية وأدائها العملي ، وبهذا أصبح الخلاف شاملا للطقس التعبدي المنصوص عليه وللطقس الولائي غير المنصوص عليه.
أجد انه لمن المناسب هنا الإشارة إلى فكرة (الاختلاف) ، فالاختلاف في الأفكار والتصورات التي ترتبط بالواقع العيني لا يجب أن تكون محطة لإزاحة الآخر، وإنما يفترض أن يكون الاختلاف مصدرا من مصادر التفكير والحوار وتبادل الآراء وغير ذلك ، ولعل هذا الأمر مما يصعب تحقيقه أبدا ، وفي كل المجتمعات ، المتدينة وغير المتدينة ، ومن كلا الجهتين معا ، فنحن لا نستطيع تصور مجتمع ما يخلوا من الاختلافات في الأفكار والتصورات ، كما لا نستطيع أن نتصور مجتمع ما متفق تماما على الأفكار والتصورات ، وقديما قيل أن المشكل التصوري هو الذي يؤكد حضور المعرفة فينا ، وعالَم بلا مشاكل معرفية حتما سيبدو عالم متصحر ، إن لم يكن عالم كل ما فيه يدعو الى السبات ، فالاختلاف اذن رحمة ، وهذا ما اكد عليه الرسول الأعظم في حديثة الشريف (اختلاف أمتي رحمة).
غير أننا جعلنا من الاختلاف سبة وأصبع اتهام نوجهه إلى الآخر ، وهناك ما يدعو للخجل من هذه التناحرات بين هذا الفريق أو ذاك ، ومن دعوى التكفير والتفجير والتهجير والقتل وإباحة الدماء والتربص والرصد وغير ذلك مما لا يليق بالإنسان بشكل عام فضلا عن الإنسان المسلم ، وواقع الحال يؤكد نسيان هذا المجتمع لقيمة الإنسانية العليا ، نظرا لما يمثله الإنسان من قيمة كونية قدسية ، ولا أريد أن أبين أسباب تعظيمه لأنها معروفة لدى الجميع، ولا بأس بالتذكير بالاية الكريمة (ولقد فضلنا بني ادم على كثير ممن خلقنا) ، فهل يعقل أن يكون الاختلاف فيما بيني وبين الآخر ، أو بين هذه المجموعة وتلك ، مدعاة لمثل هذه التصرفات ، التي أراد أن يشير إليها الملائكة بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). علينا إذن أن نؤكد الاختلاف فينا وان نحترم دعوى الآخر لنكون خير امة فعلا ونعيش بسلام وتحضر.
لكن كيف نحقق ذلك؟
أجد أننا بحاجة إلى مشروع ثقافي اجتماعي ديني يرفض تلك الجوانب الوحشية في إقصاء (الأخر) وعزله وتهميشه بتلك الوسائل المخزية، وان يستشعر الإنسان (الآخر) همجية هذه الأفعال التي تؤكد نسف (الآخر) بوسائل مدمرة ولا تمت للوعي بأي شكل من الأشكال ، والملاحظ النبيه والفاحص المتمعن يجد في مثل هذه التصرفات التي تستهدف الجماعات نوعا من الهيمنة والغطرسة وفرض الرأي على الرأي الآخر ، في حين على (الآخر) أن يبدو (أنا) ما دمت (أنا) بذات الوقت أبدو (آخر)، هذه هي الوحدة التي يجب أن يسعى لها المشروع الثقافي الاجتماعي الديني ، فعلى الرغم من الاختلاف علينا الرجوع إلى المحور الإسلامي بكل ما فيه من دعوات لرفعة الذات ، ألسنا نرى بان الدين بل وكل الديانات على العموم السماوية منها وغير السماوية تؤكد على احترام الآخر (لكم دينكم ولي ديني) ، فأي متدين هذا الذي يدعوا لذبح أخيه وتفجيره وقتله وتهجيره ، بأس ما في هذه الدعوات الهمجية وما أقربها لأنظمة الحيوان وسلوك الغابة .
علينا أيها الأفاضل أن ننتبه إلى الجمعي الذي يمثلنا ، و أن نجعل من الاختلافات الفكرية الدينية بقسميها التي أشرت لهما مسبقا : (الطقوس التعبدية المنصوص عليها والطقوس الولائية غير المنصوص عليها) ، علينا أن نجعل منها خصوصية تمثل الفرد ، وان نمنح هذا الفرد الحرية في التعبير عن معتقداته ، والحرية في ممارستها ، وان نتخلى عن بث السموم وفكرة الملاحقات والتصيد بغية الإطاحة بالآخر ، وان نلتزم الاعتدال في كل ممارساتنا الفكرية والسلوكية لما يتعلق بالجماعات الأخرى وطقوسها المقدسة.
في كثير من الأحيان ما نسمع من مثقف أو مفكر أو مسؤول أو صاحب قرار أو سلطة أو حاكم أو ملك أو أمير ، انتقادات تحط من قيمة الطقس الجمعي الذي يمثل هذه الجماعة أو تلك ، بينما على هذه الشخصيات أن تتوخى الحذر في إشاعة ما يفرق وحدة الصفوف وما أحوجنا اليوم لهذه الوحدة ، والعجيب أن بعضهم يتبجح بهذه الأفعال وقد فتحت له وسائل الإعلام ليقذف هذا أو ذاك بما يعكس همجيته واستحواذه وتغطرسه وطغيانه ، والأعجب أن من يقف وراء هذه الشخصيات دول إسلامية كبيرة ، ومؤثرة ، وللأسف أصبح الصراع الديني هو الغالب على الصراعات الأخرى ، وتسخرّ لتفعيل هذا الصراع كل الوسائل والإمكانيات الأخرى للحيلولة دون احترام ذلك المبدأ (وجعلناكم امة واحدة) ، حتى أصبحنا اليوم نخشى المرور في هذا الزقاق أو ذاك ، ونخشى المرور في هذه المدينة أو تلك ، ونخشى المرور في هذه الدولة أو تلك ، لما فينا من تطرف جماعي وفكر ابعد ما يكون عن الفكر التنويري الإسلامي ، نحن وبصراحة أقولها امة منغلقة لا تعرف عن الانفتاح أي شيء ، وهذا انعكس على ما فينا من تحضر ، ولا يقول لي احد بأن الأمة الآن متحضرة قياسا لما فيها من جامعات ومدارس ومؤسسات وغير ذلك ، بل لنجعل من وسائل الدمار التي نعدها للآخر من : سيوف وسكاكين وعبوات وقنابل ومفخخات وأسلحة وصواريخ ومعدات مدمرة و ... ) هي المعيار في كشفنا للتحضر الراهن ، لنكشف ما فينا من جهل بل وجهل مركب.
واختتم قولي بالاعتذار لكل الجماعات والطوائف والمذاهب والشخصيات التي ترى في وجودها أنها تمثل توجها فكريا يسعى لكشف الحقيقة .
كما أتقدم لكل الأرواح التي غادرت الحياة رغما عنها ، ظلما وجورا ، بالدعاء لهم أجمعين ، وان يحشروا مع الشهداء والصالحين ، وآخر ما افعله هو قراءة سورة الفاتحة المباركة. ودعائي للجميع بالسلامة والأمان.
احمد جمعة
بغداد
15 – 6 - 2012
قبل يومين مر على (العراق) - وهي ليست المرة الاولى التي يمر بها هذا البلد الجريح على مر التاريخ - محاولات همجية وغريبة لا اعتقد بأنها صدرت عن مسلم أو عاقل أو إنسان ، فمن يعمد إلى قتل أخيه الإنسان كأنما قتل الناس جميعا ، الرحمة لكل إنسان غادر الحياة جراء تصرفات الهمجيين والوحشيين على هذه الأرض التي حولناها وللأسف محط صراعات أنتجتها عقولنا في كثير من الأحيان . ولأجل ذلك كتبت هذه السطور.
يذكر علماء الاجتماع أو علماء الانثروبولوجيا بأن الطقوس : هي مجموعة حركات سلوكية متكررة يتفق عليها أبناء المجتمع وتكون على أنواع وأشكال مختلفة تتناسب والغاية التي دفعت الفاعل الاجتماعي أو الجماعة للقيام بها. ولا فرق بين أن تكون قديمة أو جديدة مستحدثة ، لكننا في الآونة الأخيرة شهدنا حراكا اجتماعيا تواصليا يكاد أن يكون كونيا ، نتيجة وسائل الاتصال وتطورها ومساعيها في اختزال المكان والزمان ، وقد سبب هذا لحدوث طقوس كونية تشتمل على تجمعات مليونية عظيمة وهي بلا شك تمثل التعبير عن محتوى الفكر الذي ينظم الجماعات في تصرفات سلوكية معينة كما يذكر علماء الاجتماع ، والمتطلعين يعرفون بان أولى الممارسات الطقوسية كانت مع بوادر التفكير السحري في المجتمعات البدائية ، ثم انتقلت الطقوس بعد ذلك لتمثل الجماعات البشرية ضمن معتقدات وثنية اذكر منها تلك التي مرت على بلاد وادي الرافدين وبلاد النيل والإغريق وغير ذلك ، فقد كان الناس يدينون بالإلهة المتعددة ويقومون بطقوس تعبدية جماعية للتعبير عن ولائهم وخضوعهم لما يؤمنون به وما يتصورونه من أفكار . لكن بعد أن جاءت الديانات السماوية الأخيرة كاليهودية والمسيحية والإسلامية تحولت الطقوس إلى نظم أدائية مختلفة ، فكل ديانة تعكس في تصرفاتها الجمعية ما يمثل هذه الديانة عينها من تصرفات تعبدية ، والأمثلة في ذلك كثيرة ومنها معاصرة أو راهنة ، غير أن الطقوس الإسلامية تقسم إلى قسمين :
الأولى وهي : الطقوس التعبدية المنصوص عليها كالحج والعمرة والصوم والصلاة وغير ذلك مما صرح به في القرآن الكريم.
والثانية وهي : الطقوس الولائية غير المصرح بها أو منصوص عليها في الكتاب العظيم (القرآن الكريم) ، وإنما يعتمد المسلمون فيها على نصوص روائية.
والمعروف بأن الإسلاميين يمتلكون في الاستدلال على تلك النصوص طرقا مختلفة ومتعددة وان كان الاستدلال في حقيقة أمره واحدا. إلا أنها في الغالب لا تنفك عن القدسية التي يسبغها عليها رجالات العلم من كل فريق أو مذهب، بناء على حججهم العقلية التي يصاحبها الحديث المروي ، كما انه ليس شرطا أن يكون الحديث مرويا عن النبي (صلى الله تعالى عليه وعلى اله وصحبه وسلم) لتتمثل به الحجية ، بل يمكن له أن يتصف بالحجية وان كان مرويا عن رجال العلم الذين بينهم وبين زمن الرسول (ص) قرونا عديدة ، كما في الطرق الصوفية وإقامة المواليد للأولياء والأقطاب (رحمهم الله تعالى جميعا) ، بنقر الدفوف وقرع الطبول والترنح والدوران والتلاعب بالنيران، والدراويش بضرب الخواصر بالسيوف ، وغرس الرؤوس بالسكاكين وطحن الزجاج بالأسنان والمشي على النار في تموجات جسمانية وغير ذلك مما هو خارج عن مألوف المجتمع الإسلامي في الأيام الاعتيادية بشكل عام، وكذلك في الطقوس الدينية الولائية الأخرى عند محبي أهل البيت عليهم السلام ، في لطم الصدور وضرب الرؤوس بالسكاكين بما يعرف بـ(التطبير) وغير ذلك، والملفت للنظر أن الفكر الأخلاقي الذي تنادي به هذه الطقوس الولائية الإسلامية ، كلها ذات مشرب واحد ، ويحمل رفعة الأخلاق وسمو النفس ، فكل متدين طقسي يحث صاحبه بما يحث عليه الدين من تجاوز المحارم أو تركها ونبذ كل ما يشين النفس ويبعدها عن مطلبها الصحيح ، لطلب القرب من الله تعالى عز وجل ، والجماعات لأجل ذلك لها مريدين كثر ، ولو كانت تدعوا إلى غير ذلك لنفر منهم الناس جميعا ، لأننا ندرك أن ميل الإنسان إلى رفعة المقامات السامية هو ميل فطري ، والأخلاق والفضيلة إنما هي مطلب كل المسلمين ، وهو من دون شك قادم من الفكر الإسلامي السمح الذي جاء ليكون متمما للأخلاق ، غير أن هذه الطقوس بما هي جماعات متدينة ، وللأسف الشديد يقابل بعضها البعض الآخر بالحقد والضغينة ، فتجد هذه المجموعة تتحدث عن الأخرى بوصفها بدعة ، ولم يأت الإسلام بها ، وأنها كفر بل وهي شيطنة ، إلى غير ذلك من التعابير التي تركت ورائها كل تلك الدعوات التي تنادي بالأخلاق وبالفضيلة. وهذا أمر ليس صحيحا أبدا بل وهو مخالف لكل قواعد الاستدلال العقلي تلك التي انبثقت منها الطقوس الولائية في بادئ الأمر ، ومن العبث أن يجعل الفرد من اعتقاداته أنموذجا مثاليا ولها مرجعياتها الصحيحة وبالمقابل يقوم بتكفير ما عداها ويصدر الفتوى بذلك وينفق الأموال لمحاربتها ، ومن هنا بدأ الصراع الداخلي بين جماعات المسلمين وبدأ التنافر ، وبدأ يسيطر على الأمة أصحاب رؤوس الأموال ودول واستراتيجيات مستقبلية وحروب إعلامية ودور نشر ومواقع الكترونية وغير ذلك ، وتناست هذه الأمة بأنها امة وسط وعليها أن تكون أمة واحدة ، بحسب دعوى القرآن الكريم والرسول الأعظم، ولا ننسى أن الفكر الإنساني بما هو رحمة ومنحة كونية إلهية للإنسان في (العقل والتعقل) ، اخذ يبدو وللأسف نقمة لاختلاف الأمة في الفروع الشرعية وأدائها العملي ، وبهذا أصبح الخلاف شاملا للطقس التعبدي المنصوص عليه وللطقس الولائي غير المنصوص عليه.
أجد انه لمن المناسب هنا الإشارة إلى فكرة (الاختلاف) ، فالاختلاف في الأفكار والتصورات التي ترتبط بالواقع العيني لا يجب أن تكون محطة لإزاحة الآخر، وإنما يفترض أن يكون الاختلاف مصدرا من مصادر التفكير والحوار وتبادل الآراء وغير ذلك ، ولعل هذا الأمر مما يصعب تحقيقه أبدا ، وفي كل المجتمعات ، المتدينة وغير المتدينة ، ومن كلا الجهتين معا ، فنحن لا نستطيع تصور مجتمع ما يخلوا من الاختلافات في الأفكار والتصورات ، كما لا نستطيع أن نتصور مجتمع ما متفق تماما على الأفكار والتصورات ، وقديما قيل أن المشكل التصوري هو الذي يؤكد حضور المعرفة فينا ، وعالَم بلا مشاكل معرفية حتما سيبدو عالم متصحر ، إن لم يكن عالم كل ما فيه يدعو الى السبات ، فالاختلاف اذن رحمة ، وهذا ما اكد عليه الرسول الأعظم في حديثة الشريف (اختلاف أمتي رحمة).
غير أننا جعلنا من الاختلاف سبة وأصبع اتهام نوجهه إلى الآخر ، وهناك ما يدعو للخجل من هذه التناحرات بين هذا الفريق أو ذاك ، ومن دعوى التكفير والتفجير والتهجير والقتل وإباحة الدماء والتربص والرصد وغير ذلك مما لا يليق بالإنسان بشكل عام فضلا عن الإنسان المسلم ، وواقع الحال يؤكد نسيان هذا المجتمع لقيمة الإنسانية العليا ، نظرا لما يمثله الإنسان من قيمة كونية قدسية ، ولا أريد أن أبين أسباب تعظيمه لأنها معروفة لدى الجميع، ولا بأس بالتذكير بالاية الكريمة (ولقد فضلنا بني ادم على كثير ممن خلقنا) ، فهل يعقل أن يكون الاختلاف فيما بيني وبين الآخر ، أو بين هذه المجموعة وتلك ، مدعاة لمثل هذه التصرفات ، التي أراد أن يشير إليها الملائكة بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). علينا إذن أن نؤكد الاختلاف فينا وان نحترم دعوى الآخر لنكون خير امة فعلا ونعيش بسلام وتحضر.
لكن كيف نحقق ذلك؟
أجد أننا بحاجة إلى مشروع ثقافي اجتماعي ديني يرفض تلك الجوانب الوحشية في إقصاء (الأخر) وعزله وتهميشه بتلك الوسائل المخزية، وان يستشعر الإنسان (الآخر) همجية هذه الأفعال التي تؤكد نسف (الآخر) بوسائل مدمرة ولا تمت للوعي بأي شكل من الأشكال ، والملاحظ النبيه والفاحص المتمعن يجد في مثل هذه التصرفات التي تستهدف الجماعات نوعا من الهيمنة والغطرسة وفرض الرأي على الرأي الآخر ، في حين على (الآخر) أن يبدو (أنا) ما دمت (أنا) بذات الوقت أبدو (آخر)، هذه هي الوحدة التي يجب أن يسعى لها المشروع الثقافي الاجتماعي الديني ، فعلى الرغم من الاختلاف علينا الرجوع إلى المحور الإسلامي بكل ما فيه من دعوات لرفعة الذات ، ألسنا نرى بان الدين بل وكل الديانات على العموم السماوية منها وغير السماوية تؤكد على احترام الآخر (لكم دينكم ولي ديني) ، فأي متدين هذا الذي يدعوا لذبح أخيه وتفجيره وقتله وتهجيره ، بأس ما في هذه الدعوات الهمجية وما أقربها لأنظمة الحيوان وسلوك الغابة .
علينا أيها الأفاضل أن ننتبه إلى الجمعي الذي يمثلنا ، و أن نجعل من الاختلافات الفكرية الدينية بقسميها التي أشرت لهما مسبقا : (الطقوس التعبدية المنصوص عليها والطقوس الولائية غير المنصوص عليها) ، علينا أن نجعل منها خصوصية تمثل الفرد ، وان نمنح هذا الفرد الحرية في التعبير عن معتقداته ، والحرية في ممارستها ، وان نتخلى عن بث السموم وفكرة الملاحقات والتصيد بغية الإطاحة بالآخر ، وان نلتزم الاعتدال في كل ممارساتنا الفكرية والسلوكية لما يتعلق بالجماعات الأخرى وطقوسها المقدسة.
في كثير من الأحيان ما نسمع من مثقف أو مفكر أو مسؤول أو صاحب قرار أو سلطة أو حاكم أو ملك أو أمير ، انتقادات تحط من قيمة الطقس الجمعي الذي يمثل هذه الجماعة أو تلك ، بينما على هذه الشخصيات أن تتوخى الحذر في إشاعة ما يفرق وحدة الصفوف وما أحوجنا اليوم لهذه الوحدة ، والعجيب أن بعضهم يتبجح بهذه الأفعال وقد فتحت له وسائل الإعلام ليقذف هذا أو ذاك بما يعكس همجيته واستحواذه وتغطرسه وطغيانه ، والأعجب أن من يقف وراء هذه الشخصيات دول إسلامية كبيرة ، ومؤثرة ، وللأسف أصبح الصراع الديني هو الغالب على الصراعات الأخرى ، وتسخرّ لتفعيل هذا الصراع كل الوسائل والإمكانيات الأخرى للحيلولة دون احترام ذلك المبدأ (وجعلناكم امة واحدة) ، حتى أصبحنا اليوم نخشى المرور في هذا الزقاق أو ذاك ، ونخشى المرور في هذه المدينة أو تلك ، ونخشى المرور في هذه الدولة أو تلك ، لما فينا من تطرف جماعي وفكر ابعد ما يكون عن الفكر التنويري الإسلامي ، نحن وبصراحة أقولها امة منغلقة لا تعرف عن الانفتاح أي شيء ، وهذا انعكس على ما فينا من تحضر ، ولا يقول لي احد بأن الأمة الآن متحضرة قياسا لما فيها من جامعات ومدارس ومؤسسات وغير ذلك ، بل لنجعل من وسائل الدمار التي نعدها للآخر من : سيوف وسكاكين وعبوات وقنابل ومفخخات وأسلحة وصواريخ ومعدات مدمرة و ... ) هي المعيار في كشفنا للتحضر الراهن ، لنكشف ما فينا من جهل بل وجهل مركب.
واختتم قولي بالاعتذار لكل الجماعات والطوائف والمذاهب والشخصيات التي ترى في وجودها أنها تمثل توجها فكريا يسعى لكشف الحقيقة .
كما أتقدم لكل الأرواح التي غادرت الحياة رغما عنها ، ظلما وجورا ، بالدعاء لهم أجمعين ، وان يحشروا مع الشهداء والصالحين ، وآخر ما افعله هو قراءة سورة الفاتحة المباركة. ودعائي للجميع بالسلامة والأمان.
احمد جمعة
بغداد
15 – 6 - 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق