بحث في هذه المدونة

الخميس، 21 يونيو 2012

الوجود .. مفهوم ونظرية وفكرة.


الوجود .. مفهوم ونظرية وفكرة.

اختلف الفلاسفة في بيان حقيقة الوجود ومفهوم الوجود. وهل هو من قبيل المشتركات المعنوية أم اللفظية. إلا أنهم اتحدوا في كونه من المفاهيم البديهية ولهم في ذلك دليلان:

انه معرف ولاشيء أوضحُ وأجلى منه.
لا جنس له ولا فصل ولا خاصة.

لذا وقعت أبحاثهم حول الوجود بما هو(مفهوم) مجرد عن القيد والتشخيص، بما له من خصوصية الحمل، فهو يحمل على كل ما عداه؛ الأمر الذي أدى لوقوع الخلاف بينهم مجددا حول مسالة أصالة الماهية و أصالة الوجود. ومن هو منشأ الآثار الواقعية في(النار) مثلا، هل هو الوجود أم الماهية، ولهم في ذلك تفصيل يطول ذكره لذا سأتركه مشيرا إليه في المطولات[1].

لكني أود هنا أن أبين معنى بعض الاصطلاحات التي ستعين على فهم المطلب حتما ، منها ما يعبر عنه في الكتب الفلسفية بـ(الماهية) ، هذا الاصطلاح الذي يقابل اصطلاح (الوجود) ، وهي في معناها الأبسط تعني : الموجود الخارجي ، كالانسان والحيوان وغير ذلك ، فهذه الموجودات كلها ماهيات ، أي واقعة في جواب ما هو ، ومن هنا جاء لفظ الهوية واشتغالها الذي نتداوله اليوم ، كما يعبر عن ذلك أهل المنطق. وهناك اصطلاح اخر في المقام يتداوله الفكر الفلسفي وهو (الجوهر) ، وهو جنس الاجناس الذي يجمع كل ماتحته ولا شيء فوقه ، و هو بتعبير أخر الموجود الخارجي لكن وجوده لا في موضوع كـ(احمد) المتعين مثلا ، ومفهوم الجوهر هنا هو ما يقابل (العرض) : وهو الموجود في موضوع ، كزرقة لون عين (احمد) مثلا . وهنا أصبحت لدينا مفاهيم أربعة وهي (الوجود) (الماهية) (الجوهر) (العرض). ومطلبنا متعلق بالمفهوم الاول.

ترى ما الذي جعل من مفهوم الوجود مفهوما يتسيد المفاهيم الاخرى في البحث الفلسفي ، هل لانه مما يتعلق به وجود الذات ، ام لان معرفته تعني انها معرفة ماهية الذات بنحو او بأخر ، ام لان فكرة الوجود تشير الى العلة في فعل الإيجاد ، ام لانها تشير الى فكرة المعلول ، وغير ذلك من الأسباب التي جعلت من الفلاسفة أن يفردوا للـ(وجود) مباحثه الخاصة في كتبهم ، تلك التي تعرف في معاجم الفلسفة بـ(الانطولوجيا) ، وتعريفها هو : " العلم الذي يكون موضوعه الوجود المحض، أو الموجود المشخص وماهيته، أو الموجود من حيث هو موجود، أو الموجود في ذاته مستقلا عن أحواله وظواهره". [2]  

وعلى الرغم من ملاحظاتي حول هذا التعرف ، لإهماله أطراف دائرة الوجود الستة ، واشتماله على أربعة منه ، إلا انه ليس مرادي الآن مناقشة هذا التعريف المنقوص للانطولوجيا ، بقدر ما ابغي بيان مفهوم الوجود الفلسفي. كما أن تناول هذا المفهوم لا بد وان يعرف الإخوة بأنه دائر في المعقولات الثانية او التي يصطلح عليها بالثانيانية ؛ لانكم حتما تعرفون بأن المعقولات المفاهيمية قد قسمها الفلاسفة الى قسمين ، وهما (المعقولات الأولى) و(المعقولات الثانية) ، المعقولات الأولى: هي التي تتناول المفاهيم وتحملها على المصاديق ، كالناطق والضاحك وغير ذلك مما يصح حمله على الجواهر أو الماهيات أو الموجودات . و المعقولات الثانية: التي لا تحمل على مصداق في الخارج فلا نقول زيد نوع أو خاصة أو عرض و إنما إنسان.[3]

كما انه تجدر الإشارة هنا إلى مباحث الفلسفة الثلاث ، التي يتفق عليها مجمل المفكرين المعاصرين وهي :

التفكر في نظرية الوجود (الانطولوجيا) Ontology 
التفكر في نظرية المعرفة (الابستومولوجيا) Epistemology 
التفكر في نظرية القيم (الاكسيولوجيا) Axiology



نظرية الوجود: Ontology 

(الوجود) مفهوم من جملة المفاهيم التي لحق بها الغموض، على الرغم من سعة الدراسات التي أجريت عليه، كالدراسات الفكرية الموسعة بين أوساط الفلاسفة تحديدا، إلا انه مما يلزم أن نفصله نظرا لما لمسناه من خلط ولبس في العديد من المقالات والدراسات الحديثة ، ولا اعرف لما يتداولون ما لا يعرفون ، كما أننا نجد بأن مهمة أي متخصص اليوم هي تحديد المفاهيم ، فما بالك وواقع الحال يشير إلى إرباك معرفي في ذات الأطروحات التي يدلي بها بعض المتخصصين ، واستطيع أن أشير إلى ذلك في الكثير من الموارد ، إلا أن الحياء العلمي هو ما يمنعني عن القيام بمثل هذه الأفعال . وعلى أية حال فان هذه المسألة العقلية المرتبطة بـ(الوجود) وان بدت من البساطة عند آخرين، إلا أنها تشكل القوام المعرفي لأهميتها، لا من حيث كونها مسالة تتمايز بها الماهيات ، وإنما من حيث كونها مسألة تعكزت عليها المعرفة ذاتها ؛ لأنها تمثل الحدود العقلية فيها.

ذات مرة سألت السؤال الأتي : هل يعني الوجود في مطلب الفلاسفة هذا الذي يمثل وجودهم ، او وجودي (انا) ، الوجود المرحلي المتعلق بأفراد معينين ، ام هو يعني الوجود (الكلي) ذلك الذي يشمل كل وجود مرحلي ، بنحو الحقيقة والتصور على حد سواء ، فيكون الوجود هو ما به تنتقل الموجودات من حيز العدم أو اللاشيء إلى الحيز الذي يمكن لنا أن نراه فاعلا فيه وان كان ساكنا كالجمادات ، لذا فأننا بواقع الحال قد نميل في الأفكار مع ما طرحه الفلاسفة الإسلاميين ، إذ أشاروا إلى عدة مراتب للوجود، من خلال المغايرة في الاعتبار، أو من خلال المغايرة في لحاض الشيء مع وجود الاعتبار. وقد يروق لنا ذكر هذه المراتب ، فأولا أشاروا إلى(الوجود الحقيقي) والذي لا يمكن إدراكه إلا عن طريق الحواس وهو ما يمثل دائرة العياني او المشاهد او هو ما يقع تحت سلسلة الجوهر من أجناس ، والى وجود آخر سمي بـ(الوجود الاعتباري) ، وهو يشمل المفاهيم التي تنعكس من الوجود الأول عن طريق التعقل .

غير اني اقسم الموجودات بحسب الاشتغال الفلسفي إلى ثلاثة أنواع مفاهيمية كلية وهي :

الأول منها،  المفهوم الكلي الذي ليس له إلا مصداق واحد فقط . كالخالق تعالى.
الثاني منها، المفهوم الكلي الذي ليس له ولا مصداق واحد . كالعدم .
الثالث منها، المفهوم الكلي الذي له مصاديق متعددة وهو ينقسم في المقام إلى قسمين : ما يمثل المفاهيم (الاعتبارية) ، كمفهوم الشجاعة والكرم وغيرها.
و ما يمثل المفاهيم (الاصطلاحية) المنطقية والفلسفية والعلمية.

أو لنقل أنها تقع في دوائر ثلاث وهي دائرة الوجوب والإمكان والعدم.

وبالجملة يمكن أن يقال الآتي: إن لكل شيء في الوجود خصائص، ومن خصائص الوجود أن تكون له مراتب عقلية ، أي يتم الوصول إليها عن طريق التفكير، و أولى هذه المراتب هي مرتبة (الوجود الحقيقي) الفعلي الخارجي . هذا الوجود الذي نعنيه في هذه المرتبة يكون مخصصا بالشيء المحسوس أو المدرك لكن ليس بالضرورة أن يتصف بالجسمية أو يتصف بقيد المرئي ، إما لفنائه أو لكونه مغيبا عن الأنظار أصلا ، لا لعلة فيه وانما لعلة في وجودنا نحن كبشر. وفي هذه الحالة يكون(الوجود الحقيقي) متصفا بعده من الصفات، فمثلا يجب أن يكون محدودا بالزمكان، وان يكون في جملة الأمور التي (قد أدركت) ، و إلا فقبل إدراكها لا تكون الأشياء في حيز(الحقيقة)، ومن الوجود الذي نحن في مرتبته، و إنما هي مجهولات تصورية ، وجودها في هذه الحالة إنما هو وجود ذهني وهذه مرتبة لاحقة للوجود الحقيقي ، وهي التالي في تعدد المراتب .

والأمور(المدركات)، هي إما أمور تعلق إدراكها على عين الشيء ونفسه ، وإما تعلق إدراكها لا على نفسها بل على غيرها من الأشياء ، وهي بذلك أمور مدركة إما عن طريق وجودها الحسي مباشرة ، أو عن طريق غير وجودها الحسي المباشر، وهي -أي الأمور المدركة- إما أن يتوصل الإنسان إليها عن طريق الكـسب أو النظر ، أو عن طريق اختصه (الله) تعالى لعبادٍ له مقربـون سلكـوا منهجا لهم للوصـول إليه سبحانه ، فـعرفهم من الأمور (المدركة) ما لم يعرفه لغيرهم ، وهناك تقسيم اخر عند الفلاسفة و هو قسمتهم المعروفة في ادراك هذا الوجود الى معرفة حسية واخرى عقلية ، وذلك لان الشيء إما أن يكون مدركا عن طريق نفسه، أو مدركا عن طريق أخر، وما يدرك عن طريق نفسه هو ما يمكن للعين أن تراه ، وعكسه هو ما يتوصل الإنسان إليه عن طريق الكسب والنظر أو عن طريق الإلهام أو الوحي ، وان كان طريق الكسب تختص به كلا المعرفتين على حد سواء بحسب ما اتصوره . وبهذا تكون المدركات جميعها موصوفة بوجود الزمان أو المكان ولا يخفى تعلق الأول بالثاني .

إذن (فالوجود الحقيقي) للأشياء جميعها سواء أكان لها جسم وصورة مرئية أم لم يكن لها جسم وصورة مرئية، أو هي (ذات) وليس لها جسم وصورة، ولا هي مرئية، كذلك يكون وجودها متعلقا بالوجود الحقيقي.

ولذا فإن " القول الصحيح هو ما ارتضاه أكثر الفلاسفة المسلمين وأصحاب الاتجاه العقلي وهو أن للإنسان قوة إدراك خاصة تسمى العقل، وعملها إدراك المفاهيم الذهنية الكلية ، سواء أكانت المفاهيم التي لها مصداق حسي أم سائر المفاهيم الكلية التي ليس لها مصداق حسي "[4]، ومن خلال ما تقدم نجد أن المعرفة الحسية تتعامل مع الأجزاء ومدارها هو المفهوم الجزئي ، لتعلق الأمر بالمصاديق. وان المعرفة العقلية تتعامل مع المفاهيم المجردة. الكلية. ونجد أن الوجود الحقيقي هو الذي يجمع الموجودات جميعها سواء أكانت مادية أم غير مادية، حسية أم عقلية، مرئية أم لا.


 ========
[1]ينظر: 1. السيد محمد حسن الطباطبائي، بداية الحكمة، مصدر سابق، ص 5-21. / 2. الشيخ مرتضى مطهري، شرح المنظومة، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، لبنان – بيروت، 2000، ص 19-65./   3. السيد كمال الحيدري، دروس في الحكمة المتعالية، الجزء الأول، ط2، دار فراقد، سنة 1424 هـ، ص 156-236.

[2]ينظر: د. عبد المنعم ألحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، ط3، القاهرة، 2000، ص 124، وهو يذكر أن (الانطولوجية):(ontologism) مذهب للفيلسوف الايطالي (جيوبرتي) (1851م)، و الانطولوجية الواقعية تعود إلى (نيقولا هارتمان) (1882 – 1950 م )، وهنا يجد الباحث ثمة مفارقة عظيمة سنحاول أن نقف عندها وهي تتعلق بموضوع هذا العلم (الانطولوجيا) أي (الوجود) : الذي لا يحتاج إلى تعريف لأنه بديهي التصور، وما كان كذلك كيف جاز أن يكون موضوعا (انطولوجيا)، ونحن نعلم أن بنية المعرفة أساسا أقيمت على كشف المجاهيل أو غير المعرفات، فما الحاجة في البحث عن ماهية الوجود، وهي لا تحتاج إلى إثبات ؟ وباتفاق عام عند الفلاسفة.

[3]ينظر في ذلك : ابن سينا، كتاب التعليقات، تحقيق حسن مجيد العبيدي، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص43.

[4]السيد محمد تقي مصباح اليزدي، المنهج الجديد في تعلم الفلسفة، مصدر سابق، ص 195. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق